للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثامنًا – إلحاقًا بالنقطة السابقة فإنه يتعين على الأجهزة المسئولة أن تقرر حالة التضخم التي ينبغي إقرار التعويض فيها، حيث يصاحبها تدهور غير محمود في القيمة الحقيقية للنقود، لا يعبث فقط بالحقوق والالتزامات الآجلة للأفراد، بل يسيئ عمومًا إلى النشاط الاقتصادي للمجتمع، وتقرير حالة التضخم لا يتم إلا بمعرفة معدله ومدى تسارعه. ويجب علينا الآن تحديد حالة التضخم التي اقترحنا في النقطة السابقة التغاضي عنها، والعمل على علاج سببها فقط دون آثارها، حيث هذه تمثل الحد الأدنى، وما فوق هذا الحد يجب إقرار التعويض فيه.

لقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أموال اليتامى أن تأكلها الصدقة إن لم تستثمر على مدى الزمن، والصدقة هنا هي الزكاة، والمقصود هنا ما يخص المال (حيث الزراعة والتجارة وأنشطة استثمارية) ونسبتها ربع العشر، أي (٢.٥ % سنويًا) ، والخشية هنا أن تستمر الأموال عاطلة سنتين وثلاث وأكثر، فتتآكل بفعل الصدقة، إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم خشي من معدل (٢.٥ %) إذا أصبح تراكميًا، فكيف بنا بمعدل (١٢.٥ %) للتضخم يأكل خمس مرات ما تأكله الصدقة؟ ألا نخشى على أموال اليتامى وحقوق الضعفاء، بل وحقوق عامة الناس؟ هل نعتبر (٥ %) تراكم المعدل في سنتين مثلًا) مبررًا لتعيب مثلية النقد الورقي، أم (١٠ %) وهو أربع مرات مثل معدل الزكاة؟

أم نأخذ توجيهًا من حديث الثلث في المال (٣٣.٣ %) حينما أراد سعد رضي الله عنه أن يتنازل عنه للفقراء قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: ((والثلث كثير)) .

أم نعتبر أن ما يفعله التضخم بالقيمة الحقيقية للنقود (غبن) ، وهو هكذا فعلًا في الواقع، ونأخذ بما ورد في مجلة الأحكام العدلية بالنسبة لأقصى حد للغبن يمكن التجاوز عنه، وهو (٢٠ %) ، فنقطع بأن زيادة معدل التضخم فوق هذا الحد تعيب مثلية النقد الورقي (١) .

أم نأخذ بالعرف فنتخذ لنا معيارًا وحكمًا معدل التضخم السائد في الدول التي نعرف بأن عملاتها النقدية قوية أو مستقرة نسبيًا، ومن ثم فإن مثليتها محفوظة على مدى الزمن؟ وفي هذه الحالة سنعتبر أن أي معدل تضخم يرتفع عن هذا المعدل يتسبب في تعيب مثلية النقود؟ لو أخذنا مجموعة البلدان المتقدمة اقتصاديًا (بلدان الدخل المرتفع) في عالمنا المعاصر، وعملات هذه البلدان تتميز عمومًا بأنها قوية ومستقرة نسبيًا، سنجد أن معدل التضخم فيها خلال الفترة (١٩٨٠ – ١٩٩٠ م) لم يتجاوز في متوسطه (٤.٥ %) سنويًا (٢) ، فهل نعتبر أن مثلية النقد الورقي في البلدان الأخرى تتعيب بارتفاع معدل التضخم السنوي فيها فوق (٤.٥ %) أو (٥ %) ؟


(١) مجلة الأحكام العدلية، الكتاب الأول في البيوع، المادة (١٦٥) ، الغبن الفاحش " غبن على قدر نصف العشر في العروض (٥ %) ، والعشر في الحيوانات (١٠ %) ، والخمس في العقار (٢٠ %) أو زيادة، أي إذا نقصت القيمة إلى هذا الحد أو أكثر كان الغبن فاحشًا، والقيمة تثبت بإخبار الخبراء بالخلو من الغرض "، فأعتقد أن أقصى شيء يمكن التجاوز عنه (٢٠ %) ، وقد يرى البعض الأخذ بمتوسط مرجح، أو تبعًا لنوع النشاط الإنتاجي (عروض أو حيوانات أو أصول عقارية)
(٢) تقرير البنك الدولي السنوي world develoment report أي عدد من الأعداد للأعوام ١٩٩١ إلى ١٩٩٥ م. الجداول الإحصائية، ولابد أن نسلم بأن هذا المعدل للتضخم السائد في البلدان المتقدمة عرضة للتغير، وهذا على أي حال مجرد اقتراح نقدمه للتفرقة بين التغيرات العادية (أو غير المزعجة) في الأسعار وغيرها. وأود أن أؤكد أن هناك قدرًا من التغيرات في الأسعار يعكس ظروف الطلب والعرض، وأنه ينبغي أن نعزل هذا القدر عند حديثنا عن التضخم كظاهرة وبائية تستدعي المعالجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>