للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه.

وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.

وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.

ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به.

<<  <  ج: ص:  >  >>