هكذا كان محمد صلوات الله وسلامه يقدر الحرية الحقيقية في غيره، كما يقدرها في نفسه، فالحرية الحقيقية في تعاليم الإسلام وفي منهج محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ هي أن تقدر الحرية في غيرك كما تقدرها في نفسك، وأول مظاهرها سيادة الإنسان على نفسه، والتي تقتضي كبح النفس عن أهوائها وشهواتها؛ لأن الحرية معنى اجتماعي ليست بمعزل عن بني البشر تظهر علاقة الإنسان بغيره، ومراعاة حقوق غيره كما يراعي حقوق نفسه. ومن هنا شددت نصوص الإسلام من الكتاب والسنة على محاربة الهوى والأنانية والأثرة، والحرية الحقيقية في نظر الإسلام لا تجتمع مع الأنانية والأثرة والهوىن وأوضحت بأن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا بين متماثلين في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن تكون بين أدنى وأعلى، ولا بين سيد وعبد، ولا بين مسيطر ومقهور. وأن التعارف الذي دعا إليه الإسلام بين أبناء الأسرة الإنسانية جمعًا لا يمكن أن يتحقق إلا يتحقق الحرية التي دعا إليها الإسلام، والتي بها يحل التعارف والتعاون بدل التناكر، والانسجام والتآلف بدل النزاع والتناحر، والعدل والمساواة بدل الاستغلال والتظالم. وبالتالي عدم قيام الحروب والمنازعات على ما رزق الله الناس وإخراج لهم من معادن الأرض.
لقد أثبت الإسلام الوحدة الإنسانية في عالم القرن العشرين، والبشرية كلها في أشد الحاجة إلحاحًا إلى هذه الوحدة التي نادى بها الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا خلت ونيفا، وكأنه يعبر عن مشاعر الإنسانية وأحاسيسها التي دمرتها الحروب وطحنتها مبادئ الأثرة والإنانية والتظالم، ومزقتها العنصرية وتمايز الأجناس والألوان والألسن، بالإضافة إلى سلاح إبادة البشرية الذي يهدد حياتها في كل لحظة. وهكذا يثبت الإسلام معجزته الخالدة وخلودها الأبدي:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: ٩٢] .
إنها الوحدة الإنسانية الشاملة التي تنطلق من وحدة الأصل، ووحدة التكوين، ووحدة الغرائز، ووحدة الاستعداد للخير والشر، فالغرائز كلها واحدة، فغرائز الإنسان في أقصى الشرق هي غرائزه في أقصى الغرب. وكل نفس من نفوس بني آدم فيها نزوع إلى الخير وإلى الشر، كما قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد: ١٠] أي نجد الخير والشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: ٧، ٨] .