إن المكاسب الإنسانية والحضارية التي أمكن إنجازها اليوم، إنما هي ثمرة نضال طويل وتضحيات جسام، أسهمت فيها الشعوب والأمم وقدمت فيها الأجيال، على اختلاف مشاربها وتنوع أجناسها وأعراقها وتوجهاتها الثقافية واختلاف نزعاتها العقدية، عصارة نتاجها الفكري وخلاصة تجربتها وفعلها الحضاري، وهذا ما يفسر ثراء التجربة الإنسانية الموضوعة في خدمة الإنسان أينما كان، باعتباره الهدف والغاية والوسيلة، انتصارًا لآدميته المقدسة التي أسجد الله لها ملائكته الكرام في قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا}[البقرة:٣٤] ، وتأكيدًا لقيمة التكريم فيه على سائر الموجودات بما أنه كائن حر مكلف مستخلف على الأرض، وبما خصه الله من المواهب وزوده من الملكات ومنحه من القدرات، بها يحقق كينونته ويصيغ وجوده بهدي الرسالات السماوية وعلى بينة من عقله المستنير، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الملك:٢٢] .
إلا أن التاريخ الإنساني النضالي الطويل، لم يسلم من الانتكاسات والسقطات، التي تبررها الطبائع والميولات الأنانية، وغلبة الأهواء والنزاعات الفردية، في غيبوبة من العقل والضمير، أدت فيما أدت إليه، أن تحول الإنسان وقودًا لهذه النار المتأججة على مدى حقب ممتدة في الزمن التاريخي، انعكست دلالاتها في ظهور فلسفات ومذاهب فكرية وأيديولوجية وأنظمة سياسية متطرفة مدمرة هدامة، كالنازية والفاشية وغيرها من سائر الحركات الاستعمارية التي ظهرت في العالم منذ زمن غير بعيد، والتي حولت حياة الإنسان إلى جحيم اكتوت بناره البشرية جمعاء، وكان من آثارها المزلزلة أن أخضعت رقاب شعوب بأكملها، واستنزفت طاقاتها الحيوية، وأهدرت ثرواتها الطبيعية، وعطلت حركتها وكبلت أياديها وأرجلها، وارتفع دوي الحرب، وانتصرت الآلة العسكرية، وتفنن صانعوها في تطوير وسائل القتل والدمار، وأتت النار بذلك على الأخضر واليابس، وكان الإنسان هو الخاسر في الأول والآخر.