إذا كان الإسلام - كما سبق - قد قدم تصوراً كاملاً لـ حقوق الإنسان يفوق في منطلقاته ومستهدفاته المواثيق والإعلانات الدولية والإقليمية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما مدى انعكاس هذا التصور في حياة المسلمين؟ وهل يعبر تاريخ المسلمين عن اقتراب حقيقي من هذا التصور؟ وعلى الرغم من أهمية هذا السؤال وضرورته إلا أنه يجب أن يلاحظ عليه ما يلي:
أولاً: الحكم على الإسلام من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لا من سلوكيات المسلمين وتصرفاتهم، وهذه هي المغالطة الكبرى التي يحاول الكتاب الغربيون والعلمانيون تمريرها حين الحديث عن الإسلام بقصد أو بدونه، وهو الأمر الذي رتب سوء فهم للكثير من القضايا الإسلامية في الفكر المعاصر، ولذا فنحن نقول بوضوح: إننا حين نتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام فإننا نتحدث عن الفكرة ولا نتحدث عن تطبيقاتها التي قد تقترب أو تبتعد بحسب التزام الإنسان أو عدم التزامه، فهي قضية خاضعة لقوة العقيدة وضعفها.
ثانياً: إن هذا السؤال يجب أن يطرح بقوة في ميدان الفكر الغربي الذي يشهد تنظيراً متعدد الاتجاهات لـ حقوق الإنسان، ويحاول منظروه ومفكروه أن يؤكدوا أن العالم الغربي هو عالم حقوق الإنسان، فهل ما احتوته إعلانات حقوق الإنسان غربية المنشأ تجد صداها في الحياة الغربية، أم أن هناك صوراً كثيرة من التطبيقات الغربية تعبر عن عمق الهوة بين النظرية والتطبيق؟!
في كل الأحوال يجب أن نعترف بأن التاريخ الإسلامي قد شهد نماذج مشرقة في احترام حقوق الإنسان، وشهد في ذات الوقت نماذج سيئة لا تعبر عن الإسلام ولا تقترب منه، فمن الأول نذكر مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم الشهيرة لأبي ذر حين عير بلالاً بأمه؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنك امرؤ فيك جاهلية)) . ونذكر الوثيقة الحقوقية الكبرى التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت بالصحيفة أو دستور المدينة، ونذكر وصايا الخليفة أبي بكر الصديق إلى أمراء الجيوش، ونذكر الصور التي رسمتها عدالة العمرين، كما نذكر حق التعبير وحرية الرأي في تخطئة امرأة لرأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقبوله لذلك والانصياع له، ونذكر قولته الشهيرة رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ "... إلخ، ذلك من صور السلوك الإسلامي الحقيقي الذي سطره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين كانوا قرآناً يمشي على الأرض.