كان للوقف دور واضح في صدر الإسلام في تطور المجتمعات الإسلامية، ولا سيما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لها، وبقي هذا الدور ينمو ويزداد باستمرار ولأسباب مختلفة مع الدول الإسلامية المتتابعة، ولا سيما منذ قيام الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية الأولى والثانية، ثم الدولة العباسية فالدولة الزنكية فالأيوبية ثم المملوكية، ووصل ذروته في الدولة العثمانية، ويختلف ذلك من منطقة إلى أخرى ومن قطر لآخر، ولكن القاسم المشترك هو تنامي نشوء المدن والمدنيات وازدياد التطور الحضاري والاجتماعي والنمو الاقتصادي بعامل الوقف.
إن مؤسسات الوقف التي أنشأتها الحضارة العربية الإسلامية الباذخة وامتدت رقعتها في أرجاء الدولة الإسلامية منذ فجر الإسلام إلى سقوط الخلافة، يمكن أن تكون دليلا واضحا على دور هذه المأثرة الإسلامية في الارتقاء الحضاري الإنساني، فقد عرف العرب المسلمون وقف المشافي التي كانت تسمى (البيمارستانات) ، ووقف الريحان للمرضى، ووقف المدارس والربط والتكايا، ووقف الكتب والمصاحف والمكتبات، إضافة إلى وقف المساجد والجوامع ودور العلم والتعليم ودور الحكمة.
(٢)
إن من يستقرئ الحركة الحضارية في المجتمعات الإسلامية المتتالية لا يستطيع أبدا أن يتجاهل الوقف الإسلامي معلما حضاريًّا بارزا، بل إن مؤسسة الوقف كانت من أغنى المؤسسات الخيرية والثقافية والتعليمية وأرقاها وأشملها في حيز القطاع الوقفي المتميز من قطاعات المجتمع الإسلامي، وبفضل هذه المؤسسة أُنشئت نظامية بغداد ونظامية نيسابور، وكل واحدة منهما جامعة من أكبر الجامعات في ذلك العهد بل أكبرها على الإطلاق، وكان لا يدرس بهما إلا الأئمة العظام من فحول العلماء، ومثل ذلك المدارس الشرابية والمدرسة العمرية بدمشق، ودار الحديث الأشرفية بدمشق وغيرها، ونظرة واحدة في كتاب (الدارس في المدارس) للنعيمي تنبيك عن سر هذا الاهتمام بالمدارس في الجمعيات الإسلامية وكلها من مؤسسات الوقف، وما جامع قرطبة والمدارس المحيطة به إلا مؤسسة وقفية، وكذلك الجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامع القيروان وجامع سيدنا عمرو بن العاص بالفسطاط الذي كان مركزا حضاريا علميا رفيعا سبق الأزهر وكان سلفه الخير ... وما مدارس صالحية دمشق التي بلغت المئات عنك ببعيد (١) .
(١) انظر: الدارس في المدارس للنعيمي؛ ومنادمة الأطلال لبدران؛ وتاريخ الصالحية لابن طولون الدمشقي.