للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولا: أن هذه الحقيقة التي أثبتناها لا يشفع لها إطلاقا القول بأن عقد الشركة هو من العقود غير اللازمة، فهناك فارق واضح بين أن تكون النية مبيتة من البداية للتخارج ومرتب لها ومنصوص عليها داخل العقد نفسه وبين أن يعن لأحد الشركاء التخارج بعد بداية النشاط لوقوع أحداث جديدة لم يكن يتوقعها من قبل. والسؤال هو: إذن لماذا لا يبدأ البنك تعاقده من البداية على أساس عقد الشركة؟

ثانيا: أنه لا يشفع لهذه الحقيقة أيضا القول بأن سداد عميل البنك للأقساط المستحقة عليه وهو بمثابة إعادة الشراء، هي بمثابة بيع تدريجي لحصص متتالية من الجزء الذي امتلكه البنك من الأصل محل العقد.

ويكفيني في هذا الشأن الإشارة إلى ما قاله الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فصل: حيل باطلة لتجويز العينة. قال رحمه الله: ومنها- أي الحيل الخاصة ببيوع العينة - أن تكون السلعة قابلة للتجزئة فيمسك منها جزءًا ما ويبيعه بقيته.

وفي واقع الأمر إذا أجزنا عقد المشاركة المتناقصة فكأنما نتغاضى تماما عن بعض الثوابت التي تعارف عليها الفقهاء والتي من أهمها:

أولا: أن العبرة في أي نوع من أنواع المعاملات والعقود المبرمة بين الناس بصفة عامة تتوقف من حيث القبول أو الرفض من وجهة نظر الشريعة على ما تتضمنه من معان ومقاصد، وليس على ما تحمله من أسماء ومباني.

ثانيا: أن هناك نهيًا عن إجراء بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، للحديث الذي أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لا يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف.

ثالثا: أن من أحد القرائن البديهية التي يمكن أن تساعد على فهم المقصد الحقيقي من التعامل المطروح للمناقشة هو الأخذ بعين الاعتبار لنوع النشاط الذي يزاوله أحد المتعاقدين أو كلاهما. وبالنظر إلى طبيعة التعامل الدقيق الذي يختص به مثل هذا النوع من العقود بصفة عامة نجد أنه لا يخرج في معظمه عن إطار واحد؛ وهو نشاط منح الائتمان عن طريق شراء السلع، ثم إعادة بيعها بالأجل. وبالرجوع إلى آراء الفقهاء وحكمهم على مثل هذا النوع من التخصص بالذات نجد الآتي:

- أنه محرم عند المالكية سدا للذرائع.

- أنه مكروه كراهة تحريم عند الحنفية.

- أنه مكروه عند كل من الحنابلة والشافعية على السواء.

رابعا: أن جميع الأشكال المختلفة لبيوع العينة سواء التي أشار إليها المالكية أو الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية يجمع بينها عموم وخصوص من وجه.

بمعنى آخر أنه يجمع بينها عامل مشترك واحد هو أن السلعة محل العقد غير مرغوب فيها من الأصل، سواء كان ذلك من أحد الطرفين فقط أو من كليهما معا. خامسا: أن الفقهاء عندما نقلوا إلينا الصور المختلفة في بيع العينة لم يذكروا فيها إطلاقا أنها عقود قاصرة على تبادل نقد بنقد مع التفاضل، وإنما قالوا: إنها بيوع أستوفت أركانها ففيها صيغة متكاملة صحيحة: إيجاب وقبول، بعتك واشتريت منك، وفيها محل للعقد وهي السلعة والثمن، وفيها نقل للملكية من البائع للمشتري، ثم نقل آخر للملكية من المشتري إلى البائع، بل إن الإمام الشافعي اشترط لكي يحكم على العقد بالفساد وعدم الجواز أن يذكر في نفس العقد الأصلي أو ملحقاته شرطا يقتضي الالتزام بإعادة البيع من المشتري إلى البائع الأصلي، ويفهم من قوله هذا أنه يتكلم عن عقد، سواء كان بيعا أو مشاركة أو خلافه؛ قد تم بالفعل مستوفيا لأركانه، ثم يتلوه بيع آخر مستوفيا أيضا لأركانه، إلا أن ذلك كله لم يمنعه من الحكم الذي رتبه في النهاية على هذين العقدين وهو الفساد، لأنهما يجران إلى الربا.

أيها السادة الفقهاء إن الوعد الذي نلجأ إليه لإجازة عقد المشاركة والمرابحة للآمر بالشراء وغيرهما لهو الدليل القطعي الذي يبحث عنه الإمام الشافعي لتحريم مثل هذه الأنواع من العقود، والاستدلال منه على أنها جميعا من جنس بيوع العينة، وقد ضربت بعض الأمثلة، ولكن سأكتفي بهذا القدر، وأعتقد أن ما قلته فيه البيان لما أريد بيانه، وأوصي بشدة منع مثل هذه العقود سدا للذرائع.

والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

<<  <  ج: ص:  >  >>