وهذا التسخير الذي منحه الخالق جل شأنه للإنسان لكل ما في الأرض وما في السماء هو حق انتفاع أو حق منفعه، وليس حق ملك، حق منحه الخالق جل شأنه للإنسان، لكي يتمكن من تحقيق ما أناطه به من أغراض، وما حمله إياه من أهداف، وحق الانتفاع هذا هو اكتساب للمنافع فقط، وتمكن من استيفائها دون أن يكون للإنسان حقيقة الملك لهذه الأعيان، إذ المالك الحقيقي هو الله جل شأنه، ولا مالك سواه لكل ما في الكون من إنسان أو غيره ـ كما سبق أن وضحنا.
وهذا ما نطق به فقهاء المسلمين في كل موضع تحدثوا فيه عن ذلك:
يقول ابن عرفة:(الملك الحقيقي إنما هو لمالك الملوك، الخالق للذوات والصفات فلا مالك حقيقة إلا الله تعالى)(١) .
هذه الحقيقة انبثقت مما تقرر في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نطقت به العقول السليمة التي تجد نفسها وهي في محيط هذا التنظيم الكوني البديع الصنع، المنظم المسيرة الدقيق، مقرة معترفة بأن خالقه ومسيره ومنظمة ومدبر شؤونه واحد، ولا شريك له في كل ذلك، له الملك وهو على كل شيء قدير ـ جل شأنه وتعالى ذكره، فحق الانتفاع يخول للإنسان أن ينال هذا الحق ويباشره ويحصله بنفسه، وليس له أن يملكه لغيره، لا بعوض ولا بغير عوض، فإذا استوفى هذا الحق نعم به، وإن لم يستوفه ضاع عليه.
(١) يقول الشاطبي: ج٣ ص ١١٠ (إن العلماء قالوا: إن الرقاب ـ وبالجملة الذوات لا يملكها إلا الله تعالى ـ وإنما المقصود في التملك شرعاً منافع الرقاب، لأن المنافع هي التي تعود على العباد بالمصالح، لا أنفس الذوات. وفي أنواء الفروق: ص ١٩٤ عند شرح الفرق ٣٠ ج ١: ولأن القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها، والنقل والانتقال على خلاف الأصل، فمتى شككنا في رتب الانتقال حملناه على أدنى المراتب استصحاباً للأصل في الملك السابق) .