وأما الكفارة فيرى الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية: أنه لا يجب هنا في النفس كفارة، كما لا يجب ضمانها بالمال (الدية) .
ويرى الشافعية والحنابلة: أن من قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله؛ لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} الآية، ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ، فوجبت الكفارة على قاتله، كما لو قتله غيره.
الترجيح: رجح ابن قدامة المقدسي (الحنبلي) الرأي الأول قائلاً: (إنه الأقرب إلى الصواب إن شاء الله؛ فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ) ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بكفارة، وقوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إنما أريد بها إذا قتل غيره بدليل قوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع.
ولكن ما ذكره من الأثر يمكن الرد عليه، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة، ولم يقض بالكفارة، وقد قال الفقهاء: إن الغرة ثابتة بالحديث، والكفارة ثابتة بالقرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي وضحت الديات لم تذكر الكفارة اعتماداً على هذا، ومن هنا يمكن أن نقول: إنه قتل إنسان نفسه تجب في ماله الكفارة.
إلا أن المعاني التي شرعت من أجلها الكفارة، إن كانت عبادة وتقرباً، فلا بد من وجود الشخص؛ لأنه لا عبادة بدون النية، وإن كانت زجراً وتنبيهاً إلى التحرز عن الوقوع في الخطأ، فإن كان هذا بالنسبة للشخص نفسه، فقد فات المحل الذي يمكن أن يستجيب لذلك، وإن كان هذا بالنسبة للغير، فإن المحل موجود، ويمكن أن يتحقق بالنسبة له هذا الغرض، فيعلم الإنسان القاتل لنفسه أن عليه حين يرتكب هذه الجناية خطأ كفارة تؤخذ من ماله كما تؤخذ بقية الحقوق.
ولعل النظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم:((الأدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنياته)) يجعلنا ننظر إلى نفس الإنسان المعتدى عليه، على أنه غير، سواء كان المعتدى عليه هو نفس هذا الإنسان المعتدي أم غير نفسه، ويؤيد هذا أنه معاقب على اقتراف هذا الجرم في الآخرة على كلا الحالين، بل بعقوبة أشد في الحالة الأولى كما سبق أن أوضحنا.
ومن هنا نرى ترجيح الرأي الثاني، خاصة وأن حق الأرقاء في الحرية حتى يتشوف الشرع إلى تحقيقه، وهو حق للغير، يلزم الوفاء به كسائر الحقوق، وكذلك حق المحتاجين في الإطعام إن لم يجد رقبة يعتقها، كما هو الحال الآن بعد أن اتفق العالم على منع الرق، وهو ما يهدف إليه المشرع الحكيم.
ومن هذا العرض الموجز لنظرة الفقه الإسلامي لجناية الإنسان على نفسه عمداً أو شبه عمد أو خطأ، نخرج بنتيجة هامة، وهي أن من يعتدي على نفسه - كُلًّا أو بعضاً - تناولته العقوبات المقررة في الفقه الإسلامي لمن يعتدي على غيره على الوجه الذي يتلاءم مع توقيع هذه العقوبات على هؤلاء الجناة، سواء في الآخرة أو في الدنيا.