ومن هذا الفهم الإسلامي الصحيح ظهرت فكرة الحق الشرعي في أموال الأغنياء للفقراء، ومما لا شك فيه بأن الأمم والشعوب قد تأثرت بهذا المفهوم للإسلام عبر عصور الإسلام المختلفة، مما جعلها تتحدث في العصر الحديث عن فكرة الحق في أموال الأغنياء للفقراء، بعد أن سبقها الإسلام إلى هذا قبل أربعة عشر قرناً ونيف من الزمن، وبعد أن كان هذا الحق في الضمير الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من عقيدته كركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يقوم الإسلام بدونها، وأن الغني الموسر لا يمكن أن يكون خالي الذمة من أي واجب إزاء الفقير المعدم، وإذا كان من السهل أن يتجاهل الغني واجبه أمام هذا الحق الشرعي المفروض فليس من السهل إذا صار هذا الحق واجباً شرعياً للفقير أن تقف السلطة الشرعية مكتوفة الأيدي، ليس فقط لأخذ ذلك الحق الشرعي من الغني وإعطائه للفقير، ولكن الحق الشرعي هنا للسلطة، أخذ ذلك الحق ونصف مال الغني كعقوبة شرعية لذلك الغني الذي أراد أن يتهرب من أداء ذلك الحق، فإذا لم تقم السلطة الشرعية بواجبها فإن الفقراء لن يعجزوا في الوصول إلى حقوقهم بقوة الحق المشروع لهم في الإسلام. فلم تكن فريضة الزكاة فكرة إحسان؛ لأن الإحسان يمثل واجباً لاحقاً، ومن هنا ساد الفهم الخاطئ في عصور الجهل والانحطاط من أن فكرة الزكاة تساوي فكرة الإحسان، الأمر الذي جعل الأغنياء ظالمين، واستطاعوا أن يلبسوا مفاهيم هذا الحق الشرعي بمفاهيم الإحسان حتى تضعف قوة المطالبة به من ناحية الفقراء، طالما هو إحسان وتفضل وليس حقا واجبا فرضه الإسلام وجعله ركناً من أركانه الخمسة. كما أن تحويل فكرة هذا الحق الشرعي إلى فكرة إحسان جعل الدولة لا تدخل إلى جانب الفقير؛ لأن درجة الإلزام هنا قد ضيعت بضياع فكرة الحق الواجب ولم يبق إلا فكرة الإحسان. الأمر الذي جعل الناس لا يشعرون بإزاء فكرة الإحسان أنها تتمتع بدرجة عالية من الإلزام للناس. وقد عرفوا طوال عصور الجهل والانحطاط وفي عصور غياب الوعي الإسلامي الصحيح لهذا الركن الإسلامي بأن الخلق لا يمكن أن يرقى إلى سلم الإلزام للحق الواجب الشرعي.
إضافة إلى أن فكرة الإحسان خالية من الشروط الضرورية لتدخل الدولة، ولا يمكن أن نجبي من الإحسان ضريبة محددة المقادير مبينة الشروط. فالإحسان ليس هناك تحديد لمقاديره، ولا بيان واضح دقيق لمن يجبي الإحسان، ومن يجبي الإحسان إذا تجرد من فكرة الحق الواجب شرعاً. وواضح الأمر موكول بجملته إلى الأغنياء، متروك لمدى شعورهم بواجبهم إزاء الفقراء والمعوزين، وهو شعور يغالبه الحب الطبيعي للمال والنفور من بذله وإنفاقه، فكانت النتيجة أو المحصلة أن انصرف الناس عن الإحسان تدريجيا وسقط الفقراء في هوة سحيقة من البؤس والعوز دون أن يجدوا من نظام المجتمع عوناً أو كافلاً. لا شك أن في المال حقاً سوى الزكاة، وأن الزكاة ليست هي كل الواجب، وهذا ما قرره كثير من علماء السلف والخلف. وأن الواجب الإسلامي لا يتم إلا بتحقيق وسائل الحياة الكريمة للطبقة الفقيرة، وبذل ما يحتاج إليه هذا الهدف الإسلامي الجليل.