للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحلقات الدورية:

وكأن تطور بني الإنسان في أحقاب الزمان تحكي حركة المد والجزر، بين الإيمان والكفر، وبين الهداية والزيغ، وبين مراتب التوحيد والتجزئة، على حلقات زمانية متقاربة في الطول والمدة، وكان عبد الرحمن بن خلدون أحد المفكرين السابقين إلى ملاحظتها وإلى تدبر أمرها فيما ابتكره من سنن العمران البشري، فرأى أن للأمم أعمارا كما للأشخاص، وأن للدول أطوارا متعاقبة على أجيال ثلاثة تدوم مائة وعشرين عاما، ولم يزل فلاسفة التاريخ من بعده يمعنون النظر في الظاهرة الدورية لتطور العمران البشري، قصد تأسيسه على قوانين علمية ثابتة.

من هذا المنطلق العلمي أنشأ ابن خلدون علما يجمع بين التاريخ والسياسة والاجتماع، وبني له قواعده النظرية، وأعطى لظاهرة سقوط الدول وانحلال العمران البشري تحاليل لم يزل العلماء يشهدون بسدادها، يقول المؤرخ الأنقليزي (أرنولد تاينبي A.TOYNBEE) (استنبط ابن خلدون ودون فلسفة للتاريخ تمثل ولا شك أعظم ابتكار فكري وأجل خدمة علمية لا يضاهيها إنتاج أي مفكر آخر في أي حقبة زمانية ولا في أي مصر من أمصار العالم) .

وإذا نحن قصرنا النظر على ما نحن فيه من أزمة مالية كبرى منذ أعوام قليلة، وجدناها متجاوبة مع أزمة ١٩٣٠، متماثلة معها في السمات الكبرى، وقد لاحظ رجال الاقتصاد علاقة مماثلة بين أزمة ١٩٣٠ وبين أمة ١٨٧٠ من قبلها، وبين هذه وسابقتها عام ١٨٢٠. فاستخلص من ذلك المفكر الروسي (نيكولا دميتروفيتش كندرايتاف Nicolas DIMTROVICH. KOUDRATIEFF.) قانون الحلقات الاقتصادية الدورية على رأس كل خمسين عاما، وتضاربت نظريته مع المذهب الماركسي فيما يترتب عنها من إمكان رجوع السطوة للرأسمالية تارة أخري، فتكون لها دورة جديدة على حساب الاشتراكية العلمية.

من أجل ذلك ألقت السلطات السوفياتية القبض على (كندرايتاف) عام ١٩٣٠ وقضت عليه بالنفي في سيبيريا حيث مات عام ١٩٤١.

ولكن نظرية التطور الدوري للاقتصاد العالمي امتد بقاؤها بعد صاحبها وأخذها عنه عام ١٩٤٧ عدد من الكتاب الأمريكيين من بينهم (إدوارد دوي Edward DEWEY) مؤلف كتاب (علم الاستشراق) وذكر فيه أن الحلقة الثانية من حلقات (كندرايتاف) سيبدأ انحدارها عام ١٩٩٧.

ثم جاء من بعده الأمريكي (روبرت بكمان) فوضع عام ١٩٨٣ كتابا عنوانه (موجة الزجر أو كيف الخلاص من الأزمة الثانية الكبرى) حلل فيه الحلقات الدورية للتطور الاقتصادي بداية من أواخر القرن الثامن عشر واعتمد على نظريات (كندرايتاف) ، فذكر أن حلقة الانحدار الكبرى ستتأكد من عام ١٩٨٠ وقد تستفحل في العقد التاسع من هذا القرن.

<<  <  ج: ص:  >  >>