للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكل ذلك أرجح رأي الحنابلة الذين يوجبون العزل في هذه الحالة خوفا على مستقبل هذا الجنين.

ويقرب من ذلك في التعرض للمخاطر أن يكون الزوجان في سفر بعيد وفي مكان يخشيان فيه من أن حدوث الحمل أثناء السفر، ثم الولادة، لا يجدان فيه الرعاية المطلوبة للأم، ولا الإمكانات التي لا بد منها لها مما يضعهما في حرج بالغ وضيق شديد، لما يحيط بالأم في أثناء الحمل وأثناء الولادة من ظروف خاصة يعتبر هذا عذرا يبيح للزوج العزل عن زوجته، ولها أيضا ذلك، كما صرح الحنفية.

وأما الظروف الاجتماعية، فقد تكون هذه الظروف عامة أو تكون خاصة: فإن كانت عامة، بأن كان الزمن زمن سوء، تفشت فيه الموبقات، وانتشرت فيه الدعارة، ووئدت فيه القيم، وأصبح الأبوان في ظله يعجزان عن إمكان تربيته التربية السوية الطيبة التي كلفهما المشرع الحكيم بها، ولا يستطيعان – حسب تقديرهما وإحاطتهما بجميع ما يجري حولهما – النجاة به من الانغماس في هذا الشر المستطير – إذا أنجباه – فإن ذلك يكون عذرا مقبولا شرعا يبيح العزل دون إذن من الزوج الآخر، كما صرح به علماء الحنفية.

أو تكون الظروف خاصة بأحد الزوجين، كأن كانت الزوجة أو الزوج سيئة الخلق، أو سيئ الخلق، ويخشى إن هو أو هي أنجب منها، أو أنجبت منه، أن يكون مآل هذا الطفل – إذا حملت به – أن يكون سيئ الخلق مثله أو مثلها، فإنه في هذه الحالة أيضا يكون هذا السبب عذرا مبيحا للزوج أو للزوجة أن يعزل عن زوجته، أو تعزل عنه بوضع ما يسد فم الرحم، كما صرح علماء الحنفية أيضا.

ومن الظروف الخاصة أيضا أنه إذا كان الزوج قد اعتزم فراق زوجته لعدم حدوث الائتدام والعشرة الطيبة بينهما وتفاقم ذلك بحيث لم يجد مفرا من الفراق، فإنه في هذه الحالة يمكن أن يعتبر ذلك عذرا يبيح له العزل عنها دون إذنها خوفا على مستقبل هذا الطفل – إذا وجد – من الضياع بين والدين مفترقين، كل منهما يعيش حياته الخاصة بعيدا عن الآخر، ولا يرعاه الرعاية المطلوبة شرعا – كما صرح بعض فقهاء الحنفية.

الباعث الثالث: الخوف على الطفل الرضيع من حدوث الحمل:

إذا كانت المرأة لها طفل رضيع، ترضعه من لبنها، وتعوله وترعاه، وتخشى أن يتأثر لبنها بالحمل، وتتأثر رعايتها لهذا الرضيع من مضاعفات الحمل وظروفه التي تختلف من امرأة إلى أخرى قوة وضعفا.. فأرادت منع الحمل حينئذ.

ففي هذا الحالة أيضا يكون الباعث على منع الحمل أثناء هذه الفترة مشروعا، لأنه يكون الهدف منه حماية نفس الرضيع واستمرار رعايته وتتبعه بما يقويه ويساعده على النمو، والوصول إلى درجة الاستغناء عن الرضاعة التي هي عماد الحياة الأولى للطفل، والتي أثبت الطب أنها الغذاء الذي لا يعادله غذاء للطفل، وأي غذاء غيره فيه من المخاطر ما فيه.

لكل ذلك، ولنفس الأدلة التي سقناها في الباعث الأول يكون للزوجين الحق في منع الحمل أثناء هذه الفترة، ولا يكون عليهما إثم في ذلك.

الباعث الرابع: الخوف من كثرة النسل وتعاقبه:

إن التناسل أمر مرغوب فيه شرعا، به يعمر الكون، وهدف مشروع من بين الأهداف التي شرع من أجلها الزواج، به يبقى النسل ويتمادى ويتتابع الخلق كما شاءت إرادة الله تعالى.

وأيضا فإن كلا من الأبوين عليهما رعاية نسلهما، وحمايته، والتكفل بجميع متطلباته سواء من الناحية الصحية أو المادية أو الرعوية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الجوانب التي تتطلبها رعاية الأبناء حتى يشبوا قادرين على تحمل التكاليف، وتحمل متطلبات الحياة.

وهذه الرعاية أمر مقرر شرعا، سواء من حيث كونها أمانة يتحملها الزوجان نحو أطفالهما، وهذه الأمانة أمرنا بأدائها إلى أهلها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [الآية ٥٨ من سورة النساء] .

وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [الآية ٨ من سورة المؤمنون] .

أو من حيث كونها مسئولية وتبعة تحملها الزوجان طائعين، ويسألان عنها يوم الدين حفظاها أو ضيعاها، والأحاديث في ذلك كثيرة منها:

ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: ((من يعول)) وقال صحيح الإسناد.

<<  <  ج: ص:  >  >>