وإذا استثنينا النظام الذي كان سائدًا في إسبرطه وأثينا فيما يتعلق بهذا الأمر، فإن هذا الذي كانت تقدم عليه سائر القبائل والشعوب الأخرى، إنما كانت مدفوعة إليه بدافع من جهالتها وبدائيتها في التعامل مع الحياة وأسبابها ... ولم يكن لدى أي قبيلة أو فئة من مجموع أولئك الناس أي انطلاقة علمية أو ثقافية مهما ضؤلت قيمتها إلى تلك العادة المتبعة.
ولقد تقدمت الشعوب والأمم صعدًا فيما بعد على درب العلم والحضارة، فترك كثير منها كثيرًا من عاداتها وتقاليدها المتخلفة وراءها.. بما فيها هذه العادة ذاتها، وظل الأمر مستمرًا على ذلك أجيالًا متعاقبة من الزمن.
إلا أن الثلث الأخير من القرن الثامن عشر شهد ولادة جديدة لهذا الاتجاه بأسلوب متطور.. لقد ولد هذه المرة في رحم من المسوغات والحيثيات العلمية والحضارية بعد أن كانت ولادته الأولى ضمن ظلمات من تلافيف الجهل والخرافة.
فقد نشر القس والعالم الاقتصادي البريطاني (مالتوس) مقالًا بعنوان (تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل) وذلك في عام ١٧٩٨ أوضح فيه أن وسائل الإنتاج وأسباب الرزق في الأرض محدودة، غير أنه لا يوجد حد لتزايد السكان وتضخم النسل. فإذا ترك الأمر بدون تنسيق، فإن المفروض أن يأتي يوم تضيق الأرض فيه بسكانها وتقل فيه وسائل العيش عن تلبية حاجاتهم.. ثم اقترح الكاتب القس لتنفيذ هذا التنسيق سبيلين اثنتين:
أولهما: ألا يتزوج الشباب إلا بعد أن يتقدم بهم السن.
ثانيهما: أن يبذل الأزواج بعد أن تظلهم الحياة الزوجية قصارى جهدهم في سبيل الإقلال من الإنجاب (١) .
(١) كان هذا المقال من أهم ما حمل داروين على طرح فرضيته المتعلقة بأصول الأنواع. وانظر مقدمة كتابه: أصل الأنواع.