إن القول بتضعيف حديث جذامة للأسباب التي ذكرناها قول لا يستند فيما نرى إلى دليل صحيح، ذلك لأن دعوى التعارض في أصلها غير صحيحة، بل غاية الأمر أن قوله عليه الصلاة والسلام:((ذلك الوأد الخفي)) يشير إلى كراهة العزل تنزيهًا، وليس فيه ما يقطع بالدلالة على التحريم، مع ملاحظة أن أقواله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الأخرى دالة على أصل الجواز الصادق بالكراهة والإباحة، فانتفى التعارض، فانتفى بذلك موجب الشذوذ الباعث على التضعيف.
وقد قال الحافظ ابن حجر عن هذا الوجه: وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم والحديث صحيح لا ريب فيه، والجمع ممكن (١) .
وأما القول بأن مضمون حديث جذامة، وهو النهي، كان ساريًا في أول الإسلام، ثم نسخته الأحاديث الأخرى الدالة على الجواز، فيرده أن من شروط النسخ معرفة تاريخ كل من الناسخ والمنسوخ، وليس ثمة ما يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بحكم التحريم أولًا، ثم أخبرهم بعد حين بحكم الجواز.
وأما قول ابن حزم بأن المنع في حديث جذامة جاء نسخًا لأحاديث الإباحة الأصلية، فيرده قول جابر رضي الله عنه فيما رواه الستة ما عدا أبا داود: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل، فلو لم يكن جواز العزل مستمرًا إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، لما قال جابر ذلك، ولأوضح أن آخر ما استقر عليه الحكم هو التحريم.
ويرده أيضًا أن كلامه هذا يعني أن حديث تكذيب النبي لليهود منسوخ، فيقال له عندئذ عين ما يقوله هو لنا، ويطالب هو نفسه بالدليل الذي يثبت أن حديث تكذيب اليهود منسوخ ولا دليل، ذلك لأن دعواه بأن حديث جذامة قد نسخ الإباحة الأصلية، ليست أولى من دعوانا نحن بأن حديث تكذيب النبي لليهود قد نسخ حديث جذامة، هذا كله نقض إجمالي.
أما النقض التفصيلي فهو أن يقال لابن حزم: ليس ثمة أي تعارض، كما قد أوضحنا، ومن ثم فإن اللجوء إلى القول بالنسخ غير وارد في هذا الصدد مطلقًا.
إذن فقد بقي الوجه الأول الذي رويناه عن النووي وأيده الحافظ ابن حجر والطحاوي وجماهير الفقهاء والمحدثين، وهو الوجه المتعين الذي لا محيد عنه، وهو أن العزل (كأداة من أدوات التحايل لمنع الحمل) جائز مع الكراهة التنزيهية.