لقد تبين لنا مما تقدم أن المنع الفردي للنسل، بالعزل أو بغيره من الوسائل، هو ترك الأفضل أو مكروه، وإذا وجد موجبه عند الفرد كان العزل مباحا على مقدار هذه الرخصة الفردية، والسؤال المطروح: هل يُجَوِّزُ الفقه الإسلامي قياس الرخصة الجماعية لأمة من الأمم أو لدولة من الدول على الرخصة الفردية في منع الحمل، وتحديد النسل، ولو لمدة معينة، حتى يزول المانع؟
المعروف عند الفقهاء أن الرخصة الفردية. محدودة بحدود الضرورات والضرورة تقدر بالنسبة لكل واحد على حدة، حسب ظروفه المادية والمعنوية. فإذا أبيح التحديد فإنما يباح للشخص الذي كانت عنده الرخصة، ولا يباح كقاعدة عامة تعم جميع الناس في بلد أو إقليم، فينتفع بالإباحة صاحب الرخصة وغيره.
ولهذا فإن من قاس تحديد النسل على العزل فقد أخطأ، إذ هو قياس مع وجود الفارق، والقاعدة في القياس اتفاق المقيس مع المقيس عليه من جميع الوجوه ولا يوجد في الفقه الإسلامي ما يجعل الرخصة جماعية، إذ من المقررات الشرعية أن المباح بالشخص أو بالجزء، يكون إما مطلوبا بالكل، أو ممنوعا بالكل، على حسب موافقته للمبادئ الكلية المقررة في الشريعة، أو مناقضتها.
فإن كان خادما للمبادئ الشرعية الثابتة، كان مطلوبا بالكل، مباحا بالجزء. وإن كان مناقضا للمبادئ العامة، كان مباحا بالجزء حراما بالكل. وقد بين هذا الموضوع الشاطبي في الموافقات، عند تعرضه لبيان المباح، فقال:
(إن المباح ضربان: أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك.
فالأول: قد يراعى من جهة ما هو خارج له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب والملبس ونحوها مباح في نفسه، وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضرورى، وهو إقامة الحياة، فهو مأمور به من هذه الجهة، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب. فالأمر راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي.