والثانى: إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة، أو لا يكون خادما لشيء. كالطلاق، فإنه ترك للحال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في وجود وهو ضروري لإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما. فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرقا لذلك المطلوب ونقضا عليه، كان مبغضا، ولم يكن فعله أولى من تركه، إلا لعارض أقوى كالشقاق (بين الزوجين) ، وعدم إقامة حدود الله. وهو من حيث كونه جزئيا في هذا الشخص وفي هذا الزمان فهو مباح وحلال) (١) .
وبهذا نعلم أن الشرع لا يجوز منع النسل بالكل، ولا يبيحه كأمر عام، لأن اعتبار حق الأمة في الولد حق تقرره الشريعة الإسلامية لحفظ كيانها، ولنهوضها القومي، ومعاكسة الطبيعة في كف أجهزتها عن القيام بوظيفتها التي خلقت لها مما لا تقره الشريعة. والله يقول {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} .
فالتحديد الجماعي لا تقره الشريعة الإسلامية، ولا تبيحه مهما كانت الأعذار ولا تحدد عدد الأولاد الذين ينبغي أن تنجبهم الأسرة، لأن الحكمة في عدم تحديد العدد الأقصى للأولاد، مادام ذلك يتعلق بالاختيار الإنساني في الأسرة، وقدرة كل أسرة على تربية الأولَاد تربية واعية.
ولذلك فإن كثيرا من العلماء يرون أن تحديد النسل الجماعي ليس معناه جبر الأمة أو جبر إقليم من أقاليم البلاد على اتخاذ تدابير معينة لتحديد النسل للوصول بهم إلى نسبة ولادية معينة، فهذا مما لا يجيزه الشرع قطعا، بل معناه توعية الآباء والأمهات بمسؤولياتهم الزوجية والأبوية، وإقناعهم بهذه المسؤولية المرعية حتى يصبحوا أكثر احتياطا لمستقبل أولادهم، وأحرص على الاكتفاء بعدد من الأولاد حسب قدراتهم المادية والأدبية، وحتى يمدوا المجتمع بجيل قادر على مواجهة مشاكل الحياة؛ لأن من اهتمامات الشريعة الوصول بحياه المجتمع إلى المثل الأعلى.
(١) الموافقات للشاطبي. الجزء الأول، صفحة ٧٧ مطبعة المدني