وكانت أولى الخطوات التي اتخذت في سبيل تيسير استنباط الأحكام قيام الدولة العثمانية بإخراج قانون للمعاملات المدنية مقتبس من الفقه الإسلامي مع التقيد بالمذهب الحنفي ومع مراعاة مصالح الناس وروح العصر. وتتمثل جرأة هذه المحاولة في عدم الإصرار على مبدأ التقيد بالرأي الراجح من المذاهب، مما وفر حرية كبرى لأعضاء اللجنة المكلفة باستنباط الأحكام في اختيار الأصلح منها للأمة وهذا واضح في التقرير الذي رفعته هذه اللجنة إلى الصدر الأعظم في عام ١٨٦٩ وجاء فيه:
(علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة منه لحل المشكلات يتوقف على مهارة علمية وملكة كلية وعلى الخصوص مذهب الحنفية لأنه قام فيه مجتهدون كثيرون متفاوتون في الطبقة ووقع فيه اختلافات كثيرة ومع ذلك فلم يحصل فيه تنقيح كما حصل في فقه الشافعية، بل لم تزل مسائله في أشتات متشعبة، فتخير القول الصحيح من بين تلك المسائل والأقوال المختلفة وتطبيق الحوادث عليها عسير جدًا، وعدا ذلك فإنه بتبدل الأعصار تتبدل المسائل التي يلزم بناؤها على العرف والعادة ... )(١) .
وأصدرت الحكومة العثمانية سنة ١٩١٧ قانون العائلة وقد سجل واضعو هذا القانون خطوة أخرى في توفير الحرية في الأخذ بالأحكام الفقهية، وأقروا مبدأ التخير في انتقاء الأحكام، وفي مصر نصت المادة ٢٨٠ من تشكيل المحاكم الشرعية لعام ١٩١٠ على العمل مبدئيًا بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ثم شكلت الحكومة المصرية لجنة من كبار الفقهاء والقانونين لوضع أحكام تؤخذ من الفقه الإسلامي دون التقيد بمذهب معين مع مراعاة روح العصر.
وهذا كله شاهد على ضرورة الأخذ بالاجتهاد عند الحاجة.
(١) صبحي الحمصاني. فلسفة التشريع في الإسلام (بيروت ١٩٦١) ص ٨٥