للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خلال عملي أجريت كل طرائق تحديد النسل وطالما أطنبت وبشرت بين مريضاتي أو طلابي عن المخاطر الصحية التي تتعرض لها النساء غزيرات الإنجاب وقناعتي أن منع الحمل في ذاته ليس حراما، ولكن هل معنى ذلك أن أكتفي بإجابة مبسطة عن سؤال بسيط هو حلال أو حرام، أو أن أكتفي بأن الاعتبار الطبي هو المرجع الوحيد فيما ينبغي للناس أن يأخذوا أو يدعوا؟ لا، لأن شواهد العصر ترينا بوضوح أن بين الحروب المستعرة في عالمنا هذا حربا تسمى الحرب الديموغرافية، تلك التي تهدف إلى تغيير الأنماط السكانية لتجعل الأغلبيات أقليات والأقليات أغلبيات وهي تستعين على ذلك بأسباب، منها التبشير بمنع الحمل ولعل من الأمثلة البليغة على ذلك شعب فلسطين، فإن الصداع الأكبر في الدماغ الإسرائيلي ليس الدولة العربية وليس الجيوش العربية وإنما التفاوت الكبير في معدل الإنجاب بين السكان العرب واليهود فإن استمر أفضى إلى أن يجد اليهود أنفسهم بعد بضعة أجيال أقلية مغلوبة، أفيعقل أن نقيم حملة بين نساء العرب لتهويل مخاطر الإنجاب وتزيين مزايا التحديد معتمدين على أن الحكم الشرعي أن منع الحمل حلال؟ إن الأمة التي فقدت كل شيء إلا عدد أفرادها، لا يجوز لها شرعا أن تفرط في هذه الميزة الباقية وليست فلسطين هي المثال الوحيد للحرب الديموغرافية، بل أعلم بالاطلاع الشخصي أن هذه الحرب الديموغرافية دائرة الرحى منذ زمن في أكثر من بلد من بلاد الشرق الأوسط دونما تسمية حتى لا يظن بنا إشعال فتنة طائفية.

أذكر في مطالع حياتي الجامعية أن العلاقات ساءت بيننا وبين دولة غربية كبرى وانقطعت الصلات حتى نبه علينا بأن لا ندخل المكتبة التابعة لهم، إلا بإذن من مجلس الوزراء وكانت هي المكتبة الوحيدة التي تتيح لنا الاطلاع على ما أقفرت منه مكتباتنا؛ نظرا لقيود العملة وطالت القطيعة كل شيء إلا شيئا واحدا هو تمويل أبحاث تحديد النسل في بلادنا من قبل تلك الدولة العظمى ظاهرة في الواقع توحي بسوء الظن حتى بت أعتقد أن مشكلة الانفجار السكاني وقصور موارد الأرض إزاء تفاقم سكانها إنما تمثل جانبا من الحقيقة لا الحقيقة كلها، وإلا فكيف نفسر أن بعض الدول الكبرى لا تتورع عن إحراق الفائض من حاصلاتها الغذائية أو إلقائه في اليم حتى لا تهبط أسعاره وفي عالمنا الذي أصابته المجاعات نرى فائض المحاصيل سلعة استراتيجية للضغط السياسي ولا يستخدم منه في وجوه البر إلا نزر يسير عن طريق هيئات خيرية أو تبشيرية لها هي الأخرى أهداف ومقاصد، ومعلوم أن موارد ضخمة للغذاء في البر والبحر جاهزة لكشف النقاب عنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>