للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفريق الثاني: ويمثله مذهب أصبغ، وقالوا عنه بأنه مذهب قوي، ويقضي بلزوم الموعود له في مباشرة شيء. نقل ذلك ابن عليش المالكي حيث قال: والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العِدَة (١) .

فعلى هذا الرأي، لو قال رجل لآخر: إن غرمائي يلزمونني بِدَيْنٍ فأسلفني أقضهم، فوعده المقابل، ثم بدا له الرجوع، فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه، لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا أعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (٢) .

وحجة المالكية في تفصيلهم هذا، أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت، فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود.

وأما قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف: ٣] فإنها نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (٣) . ولا شكل أن هذا محرم؛ لأنه كذب.

وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا فكان لابد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها، وأن يجمع بين الأدلة. فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يلزم الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (٤) .

وقد رد ابن الشاط على كلام القرافي هذا، حيث قال: بأنه ينبغي الجمع بين الأدلة وتأويل ما يناقض ذلك، فيحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية.

وحديث خصال المنافق، وذلك بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (٥) .

وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم، حيث قال: " بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل قد أضر الواعد بالموعود إذ كفله من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون، فمن أين وجب على من ضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (٦) .

وقول ابن حزم هذا غير مسلم، فلقد ساق أصحاب الرأي الثاني من الأدلة ما فيه الكفاية، للقول بلزوم الوفاء بالوعد.


(١) انظر فتح العلي المالك، وكذا القرافي في الفروق ٢٥/٤
(٢) انظر ابن عليش في فتح العلي المالك أيضًا وكذا القرافي في الفروق أيضًا
(٣) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٧٧/١٨
(٤) انظر الفروق ٢٥/٤
(٥) انظر حاشية ابن الشاط على الفروق ٢٥/٤
(٦) انظر المحلى ٤٨/٨

<<  <  ج: ص:  >  >>