أدلة الإلزام بالوعد:
وأكثر ما أثير من كلام كان حول عنصر الوعد والإلزام به، لهذا كان في حاجة إلى مزيد من التجلية والإيضاح لحقيقته، فأقول:
إن الذي أرجحه أن الوفاء بالوعد واجب ديانة، فهذا هو الظاهر من نصوص القرآن والسنة وإن خالف في ذلك المخالفون.
أ- ففي القرآن يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢، ٣] .
والوعد إذ أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبًا محرمًا. وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا (١) .
بل إن عبارة الآية الكريمة {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} تدل على أنه كبيرة، وليس مجرد حرام.
ب- وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: ٧٧] .
والآية تفيد أن نفاقهم بسبب إخلافهم وعدهم مع الله، ومثل ذلك إخلاف الوعد مع الناس، إذ لا فرق في أصل الحرمة بين الأمرين، كما أن نكث العهد محرم سواء كان مع الله أم مع الناس.
جـ – وقد أنكر القرآن شدة استغفار المؤمنين للمشركين مهما تكن قرابتهم، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: ١١٣] .
وهنا تلوح للمؤمن قصة استغفار إبراهيم لأبيه {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: ٨٦] كيف يتفق هذا مع هذا الإنكار الشديد؟ هنا يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: ١١٤] .
فكان عذر إبراهيم وعده السابق لأبيه {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: ٤٧] .
فلو كان الوفاء بالوعد مجرد أمر مستحب ما ارتكب من أجله الاستغفار لمشرك ضال من أصحاب الجحيم.
ولا يقال: لعل الوفاء بالوعد كان واجبا في شرع إبراهيم، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا، ونقول: الصحيح أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخه شرعنا، وبخاصة أن الله تعالى قال لرسوله {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: ١٢٣] .
د- يؤكد هذا ما ذكره الله عن الشيطان حين يجمعه بمن اتبعه من الغاوين في النار حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: ٢٢] .
وهذا ذكر في معرض الذم للشيطان وحزبه، فلو كان إخلاف الوعد لا يعدو أن يكون مكروها أو خلاف الأولى، لم يكن لذم الشيطان به معنى.
(١) الفروق جـ٤: ٢٠