للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عقد الاستصناع عند الحنفية:

والخلاف في موضوع الوعد ومدى إلزامه، يشبه الخلاف الذي جاء في الفقه الحنفي حول " الاستصناع" الذي اتفق أئمة المذهب على جوازه، واعتباره بيعا صحيحا، برغم أنه بيع لمعدوم وقت العقد، ولكنهم أجازوه استحسانا، لتعامل الناس به الراجع إلى الإجماع العملي الممتد من عهد النبوة إلى اليوم بلا نكير، والتعامل بهذه الصفة- كما قال ابن الهمام - أصل مندرج في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) (١) اهـ.

ثم اختلف مشايخ المذهب في تكييفه: أهو مواعدة أم معاقدة؟

فالحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة، وصاحب المنثور اعتبروه مواعدة، وإنما ينعقد عند الفراغ بيعا بالتعاطي، ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه بخلاف السلم، وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به ويرجع عنه.

قال ابن الهمام: والصحيح من المذهب جوازه بيعا.. إلخ..

وإذا أتم صنع الشيء المطلوب فالمستصنع (بكسر النون) بالخيار إذا رآه: إن شاء أخذه وإن شاء تركه؛ لأنه اشترى ما لم يره ولا خيار للصانع؛ لأنه بائع باع ما لم يره، ومن هو كذلك فلا خيار له، وهو الأصح بناء على جعله بيعا لا عِدَة في رواية عن أبي حنيفة: أن له الخيار أيضا دفعا للضرر عنه؛ لأنه لا يمكنه تسليم المعقود عليه إلا بضرر.

وعن أبي يوسف: أنه لا خيار لهما، أما الصانع فلما ذكرنا (أنه بائع باع ما لم يره) ، وأما المستصنع فلأن الصانع أتلف ماله (أي بتحويله من مادة خام إلى مصنوعات) ليصل إلى بدله، فلو ثبت له الخيار تضرر الصانع؛ لأن غيره لا يشتري بمثله. ألا ترى أن الواعظ إذا استصنع منبرا فالعامي لا يشتريه أصلًا (٢) ؟

وهذا التعليل والتمثيل يرينا بوضوح كيف كان فقهنا يعيش في قلب الحياة العملية.

وقد عدلت " مجلة الأحكام العدلية" الشهيرة في مسألة " الاستصناع " عن قول أبي حنيفة ومحمد المفتى به في المذهب، والذي يجعل الخيار للمستصنع بعد إنجاز المصنوع، وإن جاء مستوفيا كل المواصفات المتفق عليها، وتبنت قول أبي يوسف في عدم الخيار وإلزامه بأخذ المستصنع. وهذا ما نصت عليه المادة ٢٩٢ من المجلة. وقد جاء في التقرير الذي قدمت به ما يأتي: -

" وعند الإمام الأعظم (أبي حنيفة) أن المستصنع له الرجوع بعد عقد الاستصناع، وعند الإمام أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت وقت العقد فليس له الرجوع، والحال أنه في هذا الزمان قد اتخذت معامل كثيرة تصنع فيها المدافع والبواخر ونحوها بالمقاولة، وبذلك صار الاستصناع من الأمور الجارية العظيمة، فتخيير المستصنع في إمضاء العقد أو فسخه يترتب عليه الإخلال بمصالح جسيمة.. لزوم اختيار قول أبي يوسف رحمه الله تعالى في هذا، مراعاة لمصلحة الوقت، كما حرر في المادة الثانية والتسعين بعد الثلاثمائة من هذه المجلة ".

هذا وبالله التوفيق

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الدكتور / يوسف القرضاوي


(١) شرح فتح القدير على الهداية لابن الهمام جـ٥ ص ٣٥٥
(٢) شرح العناية على الهداية للبابرتي جـ٥ ص ٢٥٦

<<  <  ج: ص:  >  >>