للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء:

وأما النقطة الثالثة وهي التفريق بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، لاتخاذ ذلك ذريعة إلى أن وجوب الوفاء بالوعد من الناحية الدينية، لا يترتب عليه تدخل السلطات الشرعية للقضاء به، والإلزام بتنفيذه، فالواقع أن الأصل هو الإلزام بكل ما أوجبه الله ورسوله، وما مهمة السلطات إلا تنفيذ ما أمر الله به، ومعاقبة من خرج عليه بحكم مسئوليتهم الشاملة.

والذي يتضح لي أن الأعلام الذين نقلنا رأيهم في وجوب الوفاء بالوعد، لم يكونوا يفرقون بين ما يلزم ديانة وما يلزم قضاء، بل الظاهر من سيرهم وأحوالهم وطريقة تفكيرهم أن كل ما يلزم المسلم دينا وشرعا، يقضى به عليه ويجبر على فعله في حالة الأمر والوجوب، وعلى تركه في حالة النهي والتحريم.

يؤكد هذا أن بعضهم كان بيده سلطة الإلزام والقضاء بالفعل مثل عمر بن العزيز وابن الأشوع وابن شبرمة، وإنما فرق الفقهاء بين الديانة والقضاء فيما له ظاهر وباطن، فيحكم القضاء بالظاهر، ويكل إلى الله السرائر، كما في حكم القاضي لمن هو ألحن بحجته، ومن شهدت له البينة ولو كاذبة، أو شهد له ظاهر الحال، وإن كان الواقع غير ذلك، فيجوز له أن يأخذ ما حكم له به قضاء لا ديانة.

وكذلك في بعض أحوال الطلاق ونحوه، قد يختلف القضاء عن الديانة، لاختلاف النية المكنونة عن الظاهر المشهود.. وهلم جرا.

وما قرره مؤتمر المصرف الإسلامي الأول المنعقد في " دبي " من " أن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه". يتفق مع اتجاه الشريعة الإسلامية في الإلزام بالواجبات الدينية المحضة وإشراك ولي الأمر في رعايتها، مثل الصلاة والصيام ونحوها مما شدد الشرع في فعله، وأوجب العقوبة على تركه، وإذا كان هذا في العبادات التي لها صفتها الدينية البارزة، فأولى من ذلك ما يتعلق بالعلاقات والمعاملات.

ومن المعروف أن عقوبة " التعزير " المفوضة إلى رأي الإمام، (ولي الأمر الشرعي) أو القاضي إنما محلها كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وهذا باب واسع يستطيع القانون أو القضاء أن يدخل منه ليحاكم أو يعاقب على كل إهمال متعمد لواجب ديني، ومن ذلك ترك من يتعرض للهلاك بالجوع أو العطش أو الغرق أو الحريق أو غير ذلك دون أن يسعفه، فإن المذهب المالكي وغيره يحمله مسئولية جنائية بتركه لواجبه الديني.

ومثل ذلك النفقة على البهيمة والرفق بها، مما هو واجب ديني في الأصل، ولكن عند إهماله يمكن أن يلزم القضاء، كما يدخل في سلطة المحتسب.

وقانون " الوصية الواجبة " الذي أخذت به بعض البلاد الإسلامية إنما أرادت به إلزام الأجداد قانونا، بما كان يجب أن يراعوه ديانة، نحو أحفادهم الذين ليس لهم نصيب من الميراث في تَرِكَتِهِم لموت آبائهم في حياتهم، فجمعوا بين اليتم والحرمان فألزموا بالوصية لهم وفقا للآية الكريمة في صورة البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: ١٨٠] .

<<  <  ج: ص:  >  >>