وقد جاءت بداية الخيط في تحقيق هذا الكشف العلمي من خلال مراجعة كتاب الأم للإمام الشافعي –رحمه الله تعالى- حيث ورد فيه ما يلي:
"وإذا أرى الرجل الرجل السلعة فقال: اشتر هذه وأربحكم فيها كذا، فاشتراها الرجل، فالشراء جائز، والذي قال أربحكم فيها بالخيار إن شاء أحدث فيها بيعًا وإن شاء تركه. وهكذا إن قال اشتر لي متاعًا ووصفه له أو متاعًا أي متاع شئت وأنا أربحك فيه فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت، إن كان قال ابتاعه (الصواب ابتعه) وأشتريه منك بنقد أو دين، يجوز البيع الأول ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدداه جاز ... "(١)
وهذا يعني إمكان قيام صاحب الحاجة إلى سلعة ما (سواء كانت خاصة بالاستعمال الشخصي أم كانت للمتاجرة) بتكليف شخص آخر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري هذه السلعة في مقابل وعد من الآمر بأن يشتري منه ما اشتراه مع تحديد الربح الذي يعطيه إياه.
وعندما نظر الباحث على هذه الصورة بعين المصرفي المطلع على احتياجات الناس ومتطلباتهم وجد أن هذا الباب يسد حاجة الناس بصورة أوسع مما يسده به باب المضاربة الشرعية لو كان هو المنفذ الوحيد للتمويل في نطاق عمل البنك الإسلامي، فقد كانت المضاربة التي هي صورة من صور المشاركة بين رأس المال وعمل الإنسان هي المخرج الوحيد الذي كان يطرحه المفكرون الإسلاميون في العقدين السادس والسابع من هذا القرن لحل مشكلة الاستثمار والتمويل الإسلامي، ولكن لم يقل لنا هؤلاء المفكرون كيف يمكن أن يمول البنك الإسلامي بالمضاربة شخصًا يريد شراء سيارة لاستعماله الشخصي مثلًا أو أثاثًا لمسكنه حيث لا يوجد ربح ولا توجد تجارة، كما لم يقل لنا أحد منهم كيف يمول البنك الإسلامي شراء أنابيب نقل المياه مثلًا إذا رغبت دائرة المياه الحكومية في أن تتمول للشراء.
فهل يقف البنك الإسلامي مكتوفًا أمام هذه الاحتياجات المعتبرة ولا يمول إلا التجارة والتجاريين؟
وهب أن تاجرًا لا يريد شريكًا بل يريد بضاعة يشتريها بالأجل ويتصرف فيها بالبيع والتقليب، أو صانعًا يريد شراء المواد الخام لصناعته ولا يريد لأحد أن يدخل شريكًا معه في مصنعه وعمله، فهل يلزم الناس بالمشاركة من أجل التمويل وهم لا يرغبون؟
ولو كان هناك طبيب بحاجة إلى جهاز للأشعة أو آلة للجراحة المتقدمة فهل يجري معه البنك الإسلامي عقد مضاربة على العمل في الآلة؟
إن قاعدة الإسلام مبنية على رفع الحرج عن الناس، وإن عدل الشريعة مبني على التيسير في دين الله، وإنه لا يمكن النظر في إلزام الناس بقبول ما لا يريدون قبوله طالما أن في الشرع متسع للاختيار ولكن الضيق يأتي من نقصان العلم والمعرفة بالأحكام.
فكيف تطورت هذه الصورة من النظرية إلى التطبيق، هذا ما سنعرض إليه في الفصل الثاني.
(١) انظر – الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهدي النجار، الجزء الثالث، (القاهرة: مطبعة الكليات الأزهرية ١٩٦١) ، صفحة ٣٩