وينبغي أن يكون تقدير الرخص والغلاء من ولي الأمر، لأنه الأقدر على معرفة المصلحة العامة وتقديرها، كما ينبغي أن تعتبر مسألة تغير قيمة النقود قضية عامة لا خاصة أما الحالات الفردية فإنها لا تدخل بخصوصها. هذا ما يترتب على قيد الرهوني.
وكذلك قول سحنون له وجاهته ها هنا: ذلك أن الدراهم والدنانير تستند في عيار قيمتها إلى ذاتيتها خلقة، فإذا رخصت أو غلت فإنما ترخص وتغلو بالنسبة لذاتها من الذهب والفضلة، لكن الفلوس ومثلها الأوراق النقدية لا تستند إلى عيار من الذهب والفضة حتى تقاس به في الرخص والغلاء وإنما هي مرتبطة إلى حد كبير بالسلع، فكلما ارتفعت قيمة السلع رخصت قيمتها وكلما انخفضت قيمة السلع غلت قيمتها، فلابد للفلوس من ارتباط والسلع تصلح معيارا، أما اصطلاح الناس فلا يصلح بداهة.
ويمكن أن يخرج على قول سحنون هذا: ربط تغير العملة بأسعار السلع لمعرفة نسبة انخفاض ورخص العملة أو ما يسمى بالتضخم. ولا نجد ما يمنع من تنظيم الدول نسب التضخم، وتحديها كل عام تكون قائمة الأسعار مقياسا لتقويم العملة. وهذا موضوع ينظر تفصيله عند الاقتصاديين، لكن المبدأ مقبول ابتداء، حتى تنجلي صورته العملية من كل وجه ويتبين عدم مصادمته لنص، أو قاعدة، أو مقصد شرعي.
وإن هذا الرأي يتأسس صحيحا على ما سبق تفصيله من طبيعة الفلوس في أنها ليست ثمنا خالصا، ولا عرضا خالصا، وإنما فيها شوب من هذا ومن هذا، فقد تكون ثمنا فتجري عليها أحكام الأثمان، وقد تكون في حكم العروض فتجري عليها أحكام العروض. فلتكن ها هنا كالعروض المعيبة فتؤخذ قيمتها عند الرخص والغلاء الكثير في القرض، لأنه لا بديل عن ذلك، وتؤخذ قيمة السلعة في البيوع لإمكان التقدير بها، وهي عرض محض لا شائبة فيه، فيكون التقدير على وفقها أكثر اطمئنانا.
وقد يقال هنا: كيف افترقت الفلوس عن حكم الدراهم والدنانير في أنه لا يجوز القيمة فيها بحال، وقد قستم الفلوس على الدراهم والدنانير بجامع علة الثمنية في كل.
فيقال: إن اجتماعهما في علة الثمنية لا يمنع من حيث آثار كل أن يختلفا في قيمة هذه الثمنية، فالدراهم والدنانير لا تبطل ثمنيتها بحال. وقد ترخص بنسبة يسيرة لأنها في الخلقة ثمن، ولذا لا يترتب ضرر محقق للعاقدين حتى يجب رفعه، بخلاف الفلوس ومثلها الأوراق النقدية فإنها قد تبطل ثمنيتها، وقد ترخص كثيرا، فينظر حينئذ إلى ما انبني عليها من آثار شغل الذمم. ومن جانب آخر، إذا رخصت ثمنية الفلوس ومثلها الأوراق النقدية، لم يرخص ما دلت عليه من مقدار شغل الذمم. فقد فارقت في هذا الحال مماثلة الدراهم والدنانير صورة برخص قيمتها، ولم تفارقه حقيقة في مقدار ما شغلت به الذمة، مما اصطلح عليه حين العقد وإن لم يقبل هذا في مفارقة الفلوس الدراهم والدنانير، فيمكن اعتبار المفارقة استحسانا للمصلحة أو الضرورة على رأي الحنفية؛ إذ القياس الجلي هنا يقتضي المثل في الفلوس، والقياس الخفي وهو الاستحسان يقتضي القيمة بدليل المصلحة والضرورة.