للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الأول

ثبات قيمة النقود وما يؤثر فيه

-

الأصل أن تكون النقود ثابتة القيمة بحكم وظيفتها وبحكم التاريخ والواقع ولكنا نشاهد في زماننا تغيرا في قيمة النقود بل انهيارا في هذه القيمة فما السبب في ذلك؟

الأصل ثبات قيمة النقود:

النقود هي التي تحكم معاملات الناس وتضبطها بحيث يأخذ كل ذي حق حقه فالعلاقة بين البائع والمشتري وبين المؤجر والمستأجر وكل علاقة بين متعاقدين إنما تحكمها القيمة النقدية لما يملكه كل طرف من أطراف هذه العلاقة.

ولذلك فقد استقرت البشرية من قديم الزمن على اتخاذ النقود من أنفس المعادن التي يمكن تداولها بين الناس حتى تظل قيمتها ثابتة لا تغيير إذ لا يعقل أن يكون المقياس أو الضابط للتعامل شيئا غير ثابت.

وبالنظر إلى ثبات قيمة الذهب والفضة فإن الناس قد اتخذوهما نقودًا من قديم الزمن وقد استقرت البشرية على ذلك القرون الطوال حتى أن كثيرا من الفقهاء يقولون: أن الذهب والفضة هما أثمان بحكم الخلقة. أي أن الله تعالى خلقهما ليكونا أثمانا وهذا هو الإمام الغزالى يقرر هذا المعنى فيقول رحمه الله:

(من نعم الله تعالى (١) خلق الدراهم والدنانير وهما حجران لا منفعة في أعيانهم ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلابد بينهما من معاوضة ولابد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ولا مناسبة بين الجمل والزعفران حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة وكذا من يشتري دارا بثياب أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها فلابد أي أن الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما فيقال: هذا الجمل يسوى مائه دينار وهذا القدر من الزعفران يسوى مائة فهما من حيث انهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان وإنما أمكن التعديل (٢) بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يتقض في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر.


(١) يتكلم الإمام الغزالي رحمه الله عن هذا الموضوع في مقام استدلاله على أن من يستعمل شيئا من نعم الله تعالى في غير طاعته فقد كفر بهذه النعمة.
(٢) إحياء علوم الدين: ١٢/٢٢١٩-٢٢٢٠ طبعة الشعب. ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة) : ص ٢٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>