ثانيا: أما أن كان عدم الوفاء مماطلة فهذا ظلم على ما بينا في المبحث الأول من هذا الفصل فقد سبق أن قلنا إن كان عدم الوفاء عن قدرة على الوفاء فإن المدين يعتبر ظالما وإذا أدت المماطلة إلى أضرار الدائن بأن تغيرت قيمة العملة تدريجيا بدون قرار فإن القاضي ينظر في عقاب المدين عملا بالحديث الشريف ولكننا في هذه الحالة أمام واقعة محددة: اقترض شخص من آخر مبلغ ثلاثين ألفا والوفاء بعد ثلاثة أشهر ومضت المدة المتفق عليها وثبت أن المدين قادر على السداد ولكنه التوى وماطل فصدر قرار من السلطة في الشهر الخامس بخفض قيمة العملة ١٥ % فما هو الحكم الشرعي في هذه الحالة هل يؤخذ بما جاء عن الحنفية من أنه ما دامت العملة محددة نوعا ومقدارا فيجب الالتزام بالعقد؟ هذا ما أكدناه في الظروف العادية وفي صورة الالتزام بالموعد المحدد أو التأخر عن السداد للإعسار لكننا في هذه الحالة أمام مدين راوغ وماطل وهو قادر إلى أن صدر القرار بالتخفيض فهو إذن المتسبب في هذا الضرر تسببا مباشرا فلو أن التزم بكلمته ووفي بعهده لانتهت المشكلة غير أنه بالتوائه ومماطلته وظلمه قد ألحق بالدائن ضررا محققا بل ومعروفا بقرار رسمي فضلا عن الأضرار الأخرى التي يمكن أن تمس الدائن نتيجة التأخير ألا يستحق مثل هذا المراوغ أن يتحمل على أقل تقدير هذا الضرر المحدد؟ لا أستطيع أن أجيب على هذا التساؤل (١) لا إيجابا ولا نفيا انتظارا لما تسفر عنه مناقشة علمائنا الأفاضل لهذا البحث المتواضع حيث لم أعرض فيه إلا رءوس موضوعات يتفضل مشايخنا الأجلاء بمناقشتها وبحثها عسى الله أن يوفقنا إلى الحكم الشرعي الصحيح الذي يرضيه سبحانه ويرضيه عنا أنه جل شأنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د. يوسف محمود قاسم.
(١) وقد يثور تساؤل آخر: ألا يمكن الأخذ بقاعدة الصلح على الأوسط التي قال بها ابن عابدين رحمه الله؟ ، والجواب أن الصلح على الأوسط كان بخصوص عقد لم يحدد طرفاه العملة التي يتم بها الوفاء وإنما المدين يختار واحدة من العملات التي كانت سائدة في البلاد وقد صدر الأمر السلطاني ... والحال كذلك- بتخفيض بعضها قرشا وبعضها قرشين وبعضها خمسة قروش. ولما كان الخيار للمدين فإنه يختار بالعملة التي نقصت خمسة قروش مبالغة في إلحاق الضرر بالدائن. وقد قلنا: إن هذه الحالة لا وجود في عهدنا- أوائل القرن الخامس عشر الهجري- فكل دولة لها عملتها الرسمية. وكل عقد يبرم الآن لا بد أن يتفق أفراده على السداد بمبلغ معين بذكر المبلغ من عملة معينة، وإن لم تحدد العملة، فالقاعدة أنها العملة السائدة في بلد المتعاقدين. ولا مجال الآن لتفصيل بعض الحالات الفردية الأخرى التي يمكن للقاضي أن يطبق بشأنها قواعد الإسناد طبقا للقانون الدولي الخاص.