للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

باب التراضي مفتوح:

كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحدا من الفقهاء لا يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، القدوة في ذلك، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم:أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرا، فقال: ((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنا أفضل من سنه، فقال: ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (١) .

فعلى هذا إذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلفة أخرى فقد فعل الحسن، طبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق، لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (٢) فكيف تطيب نفسه عندما يقع محتواه، صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أشغله دون مقابل محتسبا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، إما إذا تعيبت فلا يصح ردها (٣) ، فكذلك الأمر هنا.

فلا شك أن مسألة التراضي تحل كثيرا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق وهو (أن تحب لأخيك كما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك) (٤) .

فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دينه، أو يعطى لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة، فهل يرضى أحد أن تعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الآن مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟

هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط بل يعتني أيضاً بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب ليس دنيويا فقط بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.


(١) صحيح البخاري – مع الفتح –: ٥/٥٦ – ٥٩ – ومسلم: ٣/١٢٢٤.
(٢) [سورة النساء: الآية ٢٩, وراجع مبدأ الرضا في العقود، وراجع: الأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق: ص ٦٨]
(٣) انظر الروضة: ٤/٣٥، والمغني لابن قدامة: ٤/٣٦٠.
(٤) فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة يراجع صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب الإيمان: ١/ ٥٧، وأحمد: ٢/ ٣١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>