فما من فعل من أفعال المكلفين إلا وشريعة الإسلام الخالدة توصف ذلك الفعل وتحكمه من وجوب وحرمة وندب وكراهة وإباحة.
فالتصور المقصود هنا بطبيعة الملكة الفقيهة لعلمائنا رضي الله عنهم ليس مجرد التصور العقلي والنفسي ولكنه التصور الذي يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير عند استنباط الأحكام الشرعية من أصولها. لأن التصور في اللغة: تفعل من الصورة فكأن صورة القضية أو النازلة قد انطبعت في ذهن المجتهد لكي يدرك المجتهد المتصور لها معناها الحقيقي، لأن معنى الإدراك: وصول نفس المجتهد وعقليته إلى معنى القضية المطروحة بتمامها. ومن هنا كان اجتهاد الفقيهة في القضايا والنوازل المستجدة لا يكفي فيها معرفة الحكم الشرعي من دليله، بل لا بد من تشخيص صورة تلك القضية أو النازلة في ذهن المجتهد وسبر أغوارها والإحاطة بشمولية البواعث والأسباب التي أدت إلى ظهورها، وبالتالي موازنة نتائج الحكم الشرعي بعين مقاصد الشريعة صحة وفسادًا وترجيح درء المفاسد على جلب المصالح عند التعارض، ومن هنا أيضًا ما أحوجنا على ضوء هذه القاعدة الفقهية الشهيرة إلى النظرة الموضوعية المجردة لكافة القضايا والنوازل المستجدة أمام مجمعنا الموقر، وإلى التأصيل العلمي الدقيق لتلك المسائل المستجدة والبعد عن التفريعات الجزئية على غرار الاجتهاد الفردي المذهبي وتلفيق الأحكام إيمانًا منا جميعًا بأن رسالة المجمع ليست فقط في مجال النظر في القضايا المطروحة والبحث عن حلول شرعية لها فحسب، بل إن رسالته في هذا المجال هو العمل على إخراج ثروة فقهية للأمة الإسلامية مؤصلة تبرز من خلالها صلاحية الإسلام وعظمة الشريعة الإسلامية ومعينها الخالد الذي لا ينصب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وإن من أخطر المشكلات التي تحتاج إلى النظرة الشمولية والاستيعاب الأمثل والنظرة الموضوعية وعدم تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه الموضوعية، والتي كانت محل عناية جهابذة علماء الإسلام في كافة ظروف الأمة الإسلامية وتحقيق مصالحها من ينابيع دينها الإسلامي الحنيف من أخطر هذه المشكلات التي تعتمل اليوم في حياة أمتنا الإسلامية منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي وتبريد الواقع المؤلم التي تعيشه الأمة الإسلامية، واتخاذ بعض من يدعون حرصهم على الشريعة موقفًا معينًا بصورة مسبقة تجاه النصوص الشرعية أو الأصول التشريعية الأخرى التابعة لها منطلقين من خداع الواقع التطبيقي متجاهلين نظرة الإسلام الاقتصادية في الإطار العام للاقتصاد الإسلامي وحكمة التشريع الإسلامي ونظرته إلى العدالة الاجتماعية بصورة شمولية لا تقبل التجزئة ولا التزوير.