للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الدينار المنصوص عليه في صيغة العقد قائم الاعتبار القانوني في التعامل به بين الناس – فإن من عليه المبلغ المذكور في صيغة العقد وقت حلول الأجل سواء ارتفع ذلك المبلغ بعملة أخرى أو نزل، ذلك لأن تحديده وتعيينه في صيغة العقد الشرعية قد قطع كل ما يؤدي إلى النزاع بين المتعاقدين. والقول هنا بدفع ما يعدل ذلك السعر الذي كان عليه يوم البيع أو العقد، أي وقت ثبوته في الذمة قول مخالف لصيغة العقد الشرعي نفسها ومخالفة صريحة لما تم عليه التعاقد، وكل ما أدى إلى بطلان العقد الشرعي الصحيح، فهو باطل وهذا أمر في غاية الخطورة، إذا لا يقف الأمر فيه عند التلاعب بالعقود وبطلانها، بل إنه يؤدي أيضًا إلى جهالة الثمن، لأن الثمن ما اشتمل عليه ذلك العقد قد يحسب بحسب صرف قيمة العملة التي اشتملت عليها صيغة العقد وقت الأداء والذي لم يكن مذكورًا في العقد، وبالتالي لا شك أنه يؤدي إلى عدم حسم النزاع. علمًا بأن مقاصد الشريعة في أحكامها الثابت في تصرفات الناس ومعاملاتهم وقطع النزاع وسد الذرائع التي تؤدي إلى إثارة أي خلاف. ولا شك بأن تجاهل ما اشتمل عليه العقد، وبالتالي عدم ثبات قيمة العملة في عالم اليوم كفيل بفتح أبواب النزاع والخلاف , وبالتالي عدم الثبات القانوني في معاملات الناس وما لهذا شرعت العقود في شريعة الإسلام. ومن هنا نعلم دقة المفاهيم الفقهية لعلمائنا عند وصفهم شروط معرفة الثمن وقدره وصفته، كل ذلك لم يكن إلا مخافة النزاع وحرصهم على تحقيق مقاصد الشريعة مع احترام عقود الناس وثبات معاملاتهم.

وهنا أيضًا كيف للمجتهد تجاهل تلك الأركان والشروط التي نص عليها فقهاؤنا والتي شددوا على توافرها وانتقاء موانعها. وبالتالي يجتهد في حكم سعر تلك العملة والتي هي أصلا خارجة عن نطاق صيغة العقد الشرعي الملزم، فعندما يقرض إنسان آخر مبلغًا من المال إلى أجل معين رفقًا به وتفريجًا لكربته ودفعًا لحاجته، فإذا ما حان أجل الوفاء، فإن المقرض قد يجد بأن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر من المبلغ الذي دفعه للمقترض سواء من حيث قوته الشرائية أو من حيث قيمة العملة الذهنية أو العملات الأخرى يوم أن أقرضه وإن كان مماثلًا له في الجنس والعدد.

إن زيادة القيمة الشرائية للنقد أو نقصانها وكذا زيادة صرف العملة النقدية أو هبوطها، هو ما درجت عليه معاملات الناس منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، فكثيرًا ما يشترى التجار بضائع بنقد محدود مؤجل الوفاء إلى أجل محدد متفق عليه وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء يجد كل واحد من المتعاقدين أن المبلغ المتفق عليه والذي تم عليه التعاقد قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية أو من حيث القيمة بالنسبة للعملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة (وقت العقد) . كما جرى عرف المسلمين على جعل مهر الزوجة أو بعضه مؤجلا في الذمة لا يحل أداؤه إلا بالموت أو الفرقة، وكثيرًا ما يدخل علي تغير قيمة العملة وقد يكون النقص فاحشًا عند حلوله بالنظر إلى يوم ثبوته في الذمة، وأما لو انقطع التعامل بهذه العملة، وهو ما يسمى بعرف الفقهاء بكساد العملة بأن حل محل الدينار اليمني أو الكويتي أو الجنيه المصري أو الإسترليني ... إلخ عملة أخرى فإن الحكم هنا يختلف في هذا الحال، إذ ليس لصاحب الحق إلا بما يعادل تلك القيمة المالية بحسب الصرف يوم حلول أجل الأداء من أي نوع من العملة القائمة الاعتبار القانوني بين الناس.

والله أسأل أن يوفق مجمعنا إلى استلهام الحق وتقرير الحكم الشرعي لهذه المسألة الهامة في حياة الأمة الإسلامية بما يتفق ومقاصد الشريعة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الشيخ محمد عبده عمر

<<  <  ج: ص:  >  >>