للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أيضًا: (وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة أو أنقصته فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد، فإذا ما تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ثبوته في ذمة المدين سواء أكان قرضًا أو دينًا أو مهرًا أو ثمن مبيع أو غيره، فليس يجب في ذلك إلا ما جرى عليه العقد، لأنه هو الذي جرى عليه التعاقد لا غيره) ، وهذا هو القول المشهور للأحناف والمالكية، وهو أيضًا قول الإمام الشافعي والحنابلة كما نقله عنهم صاحب كتاب (بدائع الصنائع ٧ / ٣٢٤٥) .

فقد قالوا جميعًا رضي الله عنهم (إنما يجب على المدين أداؤه إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينًا في الذمة دون زيادة أو نقصان وليس للدائن سواه) .

وقال ابن قدامة في المغني: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء أكان كثيرًا مثل إن كانت عشرة دوانق فصارت عشرين دانقا أو قليلا، لأنه لم يحدث فيها شيء وإنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت) .

وكلام الإمام الشافعي ومن وافقه من الأئمة رضي الله عنهم هذا إنما هو في الديون والمهور والعقود التجارية وغيرها التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد، أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث كما في دين النفقة إذا أقدره وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقدير من قبل جهات الاختصاص كالمحاكم وغيرها، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنفقة، لأن القاعدة التي يبني عليها تقدير النفقة، إنما هو تحقيق الكفاية للمنفق عليه، وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كافٍ للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث.

إن المجتهد في مسألتنا هذه من وجهة نظري عندما ينظر إلى العقود وما اشتملت عليه من معاملات بما في ذلك القروض والديون الثابتة في الذمة وكذا عقود التجارة والمهور إلى غير ذلك لا يجد مجالًا للاجتهاد إذا كان ما اشتمل عليه أي عقد من العقود عملة محددة مسماة سواء غلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم شرعًا من عليه الأداء أن يؤدي غير ما اشتمل عليه ذلك العقد وهذا هو ما تعورف عليه بني سلف الأمة وخلفها، لأن تضخم العملة وانكماشها بعد وجوبها في الذمة تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنه لا دخل فيه ولا حيلة لمن وجب ذلك في ذمته.

إن المجتهد أول ما ينظر في معاملات الناس وتصرفاتهم إلى صيغ تلك العقود وما تشتمل عليه تلك الصيغ من صحة أو بطلان انطلاقًا من قاعدة العقود في الشريعة الإسلامية من أن كل عقد ملزم للمتعاقدين عند توفر شروط العقد الصحيح وانتفاء موانعه. وهذه القاعدة هي ما عبر عنها في القانون المدني الوضعي: العقد شريعة المتعاقدين، مع احتفاظ القاعدة الشرعية بتوافر الشروط وانتفاء الموانع. فالمجتهد عندما ينظر في نزاع المتعاقدين، بفتوى أو بحكم قضائي ملزم لا ينظر إلى زيادة سعر العملة في السوق أو نقصانها وإنما ينظر أول ما ينظر إلى صفة العقد وصيغته وما اشتمل عليه، فإذا وجد صفة العقد وصيغته سليمة من العيوب المبطلة أو المفسدة شرعًا، فإنه ولا شك يفتي أو يحكم على المتعاقدين الوفاء بما التزما به طالما كان التزامهما صحيحًا شرعيًّا، فإذا كانت صيغة العقد تنص على مبلغ مائة دينار يمني أو كويتي على فلان من الناس لآخر وتوافرت شروط ذلك العقد وانتفت موانعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>