للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما متأخرو الحنفية: فلم يجعلوا إمكان الحيازة والإحراز أو العينية المادية من مقومات المال، جاء في الدر المنتقى شرح الملتقى في تعريف المال: " ويطلق المال على القيمة، وهي ما يدخل تحت تقويم مقوم من الدراهم والدنانير " (١) . وهذا يدل على أن كل ما له قيمة بين الناس فهو مال شرعًا؛ لأن القيمة المالية تتضمن وتستلزم المنفعة، ولا يتعارف الناس تقويم ما ليس له منفعة، ولا يجري فيه التعامل. ثم إن متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء، منها المال المعد للاستغلال. والشيئان الآخران: المال الموقوف ومال اليتيم.

وأما الاتجاه الثاني لجمهور الفقهاء (من المالكية والشافعية والحنابلة) (٢) ، فيلتقي مع رأي متأخري الحنفية، فهم يعرفون المال بأنه: كل ما له قيمة مالية عرفًا يلزم متلفه بضمانه. وهذا يلتقي مع القوانين الوضعية في تعريف المال، ويشمل الأعيان والمنافع وسائر الأمور المعنوية كالحقوق من كل ما يدخل تحت الملك؛ لأن الحقوق كلها تقوم على أساس الملك، إذ الحق جوهره الاختصاص، والاختصاص جوهر الملك وحقيقته، وإلا لما كانت حقوقًا، بل مجرد إباحات، وإذا كانت الحقوق من قبيل الملك فالحقوق أموال، إذ المال مرادف للملك في رأي الفقهاء الذين عرفوا الملك: بأنه اختصاص حاجز شرعًا يخول صاحبه التصرف فيه إلا لمانع.

وحق الملكية يمنح صاحبه سلطات أو صلاحيات ثلاثًا هي الاستعمال والاستغلال والتصرف، وبتعبير فقهائنا: " التمكين من الانتفاع ". والتصرف يجيز التنازل عن محل الحق بعوض أو بغير عوض. وهذا يعني أن المعوضة أثر الملك وثمرته، وأن لصاحبه عليه حقًا عينيًا بدليل اعتراف القوانين به، وعرف الناس عليه.

والعرف الحالي هو الذي جعل للاسم التجاري والترخيص صفة المالية، ومستند هذا العرف الاستصلاح أو المصلحة المرسلة المتعلقة بالحقوق الخاصة والعامة، ولا يتعارض هذا العرف مع نص شرعي، وإنما يتعارض عند متقدمي الحنفية مع القياس، والقياس يترك بالعرف العام باتفاق العلماء.

والعلاقة بين الاسم التجاري والترخيص وبين صاحبه علاقة اختصاصية ومباشرة، كسائر الحقوق الأدبية، فهو إذا حق عيني لا شخصي، كأي حق ملكية آخر، والحق العيني كما هو معروف: سلطة مباشرة بين شخص وشيء معين بذاته.

والخلاصة: أن بيع الاسم التجاري والترخيص في الأعراف السائدة اليوم أمر جائز فقهًا؛ لأنه أصبح مالًا، وذا قيمة مالية، ودلالة تجارية معينة، يحقق رواج الشيء الذي يحمل الاسم التجاري، والذي منح صاحبه ترخيصًا بممارسة العمل، وهو مملوك لصاحبه، والملك يفيد الاختصاص أو الاستبداد أو التمكن من الانتفاع بالشيء المملوك، والعلاقة بين الشخص واسمه التجاري علاقة حق عيني، إذ هي علاقة اختصاصية ومباشرة، ومستند كون الاسم التجاري متمولًا هو العرف المستند إلى مصلحة معتبرة شرعية تتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة. ولا يصادم ذلك نصًا شرعيًا. وهذا ينطبق على كل " إنتاج فكري " أدبي أو فني أو صناعي، لما له من قيمة مالية بين الناس عرفًا، وخصائص الملك شرعًا تثبت فيه وهي الاختصاص الذي هو جوهر حق الملكية، والمنع، أي منع الغير من الاعتداء عليه إلا بإذن صاحبه، وجريان التعامل فيه، والمعاوضة عنه عرفًا.

الدكتور وهبة الزحيلي


(١) الدر المختار ورد المحتار: ٤/١١.
(٢) الموافقات: ٢/١٧؛ والفروق: ٣/٢٠٨؛ وبداية المجتهد: ٢/٢٤٠؛ والشرح الكبير للدردير: ٤/٢٥٧؛ والأشباه والنظائر للسيوطي: ص٢٥٨؛ والمغني مع الشرح الكبير ٥/٤٣٩؛ والإقناع: ٢/٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>