الأصل التجاري بين الجواز والمنع:
إن المانعين للعمل بالأعراف الخاصة إنما منعوها لأنها لا تقوم في الغالب على دعائم الدين ولاتستند إلى نصوص واضحة معترف بها بين عامة الفقهاء، بل تقوم على خرافات وأباطيل، وأن الإسلام لما جاء أقر كثيرًا من أعراف الجاهلية ورفض ما كان رجسًا من عمل الشيطان، وهذا القدر هو محل اتفاق بين علماء المسلمين. ويبدو أن رفض عدد كبير من العلماء للفتاوى التي جوزت بيع الخلو وأقرت المستأجر في مقر عمله بعد انقضاء مدة الإجارة هو تغافل عن قيمة هؤلاء العلماء الذين بلغ عددهم منهم مرتبة الاجتهاد وجميعهم يعلم أنه لا يجوز في مجال القضاء والفتيا اعتماد أعراف تخالف أصلًا من أصول الشريعة كما لا يجوز اعتماد عرف يبطل واجبًا أو يبيح حرامًا، ونسوا أن المفتي أو القاضي أو العالم كثيرًا ما يعتمد قواعد أخرى كالتي تقرر وأن الضروريات تبيح المحظورات وأن الضرورة تقدر بقدرها وإذا ضاق الأمر اتسع حكمه وأن العادة محكمة.
وقد تقدم لنا أثناء البحث أن الشيخ الطاهر بن عاشور وغيره ممن تقدم ذكرهم أجازوا أنواع الخلوات اعتمادًا على الضرورة أو الرخصة أو غير ذلك.
ومسألة تخلي المستأجر عن الخلو ببدل وثبوت حق البقاء له في العقار بدون إذن المالك لو صدرت فيها فتوى واحدة في عصر من العصور في بلد واحد من بلاد الإسلام، لقلنا: إنه يجوز لهؤلاء أن يقولوا إن هذه المسألة وليدة عرف خاص لا يعتد به في الفقه عامة. ولكن الواقع أن هذه المسألة انقلبت إلى حاجة اجتماعية عاشت أربعة قرون أو خمسة، وتناولها بالدرس عدد كبير من العلماء من جهات متعددة من العالم الإسلامي – غير الشيخ القاني الذي اعتمدت فتواه – ولقيت القبول من أهل الذكر أمثال الشيخ شهاب الدين القرافي والعلامة الشيخ الأجهوري، والشيخ سالم السنهوري، والشيخ عليش، والشيخ باش مفتي إسماعيل التميمي، والشيخ باش مفتي إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، والشيخ باش مفتي الشاذلي بن صالح، والشيخ أحمد الغرقاوي المصري، والشيخ محمد المهدى الوزاني فلجميع هؤلاء وغيرهم فتاوى مدونة في كتب الفقه مع بيان طرق الاستنباط وهي كلها لاتبقي حجة للمانعين للعمل بالعرف الخاص ولاتدع لهم مجالًا لإنكار هذا النوع من الاجتهاد الذي حظى من العلماء بالقبول وتلقته الأمة الإسلامية بالتأييد والارتياح.
واعتقادي أنه لا يمكن أن ينظر إلى موضوع الأصل التجاري بمنظار ضيق على أنه لا يزيد على أن يكون عقد كراء عقار تجري عليه أحكام الإجارة العامة ككل عقار من العقارات بدون أن ينظر إلى ما يحيط بهذا العقد من اعتبارات خاصة لايصح أن يتغافل عنها أهل الإدراك والذكر، لأن المستأجر قد ينفق على بعض المحلات أكثر من قيمة المحل في تهيئة كمالات قد لانعطيها القيمة التي تستحقها، ولكنها على كل حال باهظة الثمن وهي التأثيث والزينة والتنسيق والأضواء ووسائل الدعاية ووسائل الراحة، وكل ذلك لجلب الحرفاء وكسب السمعة التجارية ومنافسة بقية التجار، ولا يؤمل عادة أن يكون للمحل مردود كامل إلا بعد مضي ست أو سبع سنوات.
فإخراج المكتري من المحل عند انتهاء مدة الكراء وهي سنتان في المحلات التجارية وهو لم يتحصل بعد على السمعة التي يعمل لتحقيقها، ولم يتمكن من إرجاع ريع المصاريف التي قام بها عادة، فإخراجه بدون اعتبار الأصل التجاري معناه إفلاسه وتحطيم كل ما شرع في بنائه وإفلاس المصارف التجارية التي تقوم وراء التجار.
وإذا لم تظهر المصلحة بصفة جلية في منح صاحب الجلسة أو النصبة أو الحانوت حق البقاء عند العلماء الرافضين العمل بالعرف الخاص، فهل يترددون في إعطاء صاحب الأصل التجاري هذا الحق الذي مكن منه مقابل الجهود الكبيرة التي بذلها للتحصيل على الرخص والمصاريف الباهظة التي أنفقها في تحقيق عناصر الأصل التجاري، والتي بدونها لا يستطيع أن يحقق المتجر المناسب، ولا التغلب على منافسيه، ولأن في منعه من التمتع بحق الأصل التجاري إضرارًا به، بل هو في عرف التجارة إلقاء به إلى التهلكة. مع أن الرافضين العمل بالعرف الخاص يعتبرون من القواعد الشرعية المعترف بها بين الجميع أن الضرر يزال؟.
ومن جانب آخر، فإن عقد الإجارة هذا وإن لم ينص فيه على التبقية فهي معتبرة لأنها مفهومة ضمنا من المتعاقدين استنادا للعرف السائد بين التجار والذي أقرته القوانين التجارية.
وفي اعتقادي أننا لو نتمكن من تمديد مدة العقد إلى أجل لا يتغير فيه المحل غالبًا ويتمكن فيه المستأجر من تعويض مصاريفه لكنا أقرب إلى التوفيق بين من يرفض ومن يجيز، لا سيما وأن تحديد مدة الإجازة مبينة على اجتهادات وأعراف والإمام مالك يجيز كراء المسيل إلى سنين كثيرة أو إلى الأبد..
وهذا رأي اتجه إليه رجال القانون في تونس أخيرًا وقدموا فيه لائحة قانون للمصادقة عليها.