هذه هي البحوث التسعة، وهي كما لاحظتم بالإضافة إلى ما أقرره في بحثي كلها مجمعة وربما كان هذا من حسن حظي، أن كل البحوث في الموضوع الذي أوجز الكلام فيه مجمعة على جواز بيع الاسم التجاري والترخيص، وهذا ما لم يحظ به موضوع آخر لشدة الخلاف بين أطراف المعارضة والمؤيدين، ونسأل الله أن يوفق الجميع لما يحقق الخير لسمعة هذا المجمع ورسالته وألا نكون متشددين بكامل التشدد ولا متسامحين كامل التسامح، وإلا لو كنا متشددين في الحقيقة لما كان هناك داع لوجودنا، فمجمعنا الهدف منه إيجاد الحلول للمشكلات المعاصرة، والتفتح على معطيات الحياة الحاضرة والتجاوب مع مقتضيات الضرورة والحاجة الملحة، وإلا لو كنا ننقل الآراء دون أن نحاول الترجيح بينها وبما يحقق المصلحة - صحيح أن ناحية الورع والاحتياط تقضي بالإفتاء بالرأي الراجح أو رأي الجمهور - لكن أيضًا لنا رسالة ومهمة، وهو أن نعالج مشكلات طارئة وإلا إذا رددنا ما في الكتب فأظن أن مهمتنا تنتهي.
بحثي أيضًا في الحقيقة لا يعارض البحوث السابقة، وقد أبنت فيه أن فقهاء الحنفية سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين يجيزون التنازل عن الاسم التجاري والترخيص وهو داخل تحت الحقوق التي تثبت لأصحابها أصالة لا على وجه رفع الضرر، كحق ولي المقتول بالقصاص وحق الزوج في أخذ العوض من زوجته عن طريق الخلع، فهذا أيضًا حق الملكية الأدبية والفنية والصناعية والتجارية، ومنه بيع الاسم التجاري، يعتبر من هذه الفئة من الحقوق، وبالتالي لأن هذا الحق لم يثبت لصاحبه دفعًا للضرر عنه فقط كما يتبادر لأول وهلة وإنما ثبت له ابتداء، فلم توجد الشهرة التجارية ورواج السلعة إلا بجهد صاحب الاسم التجاري وتعبه وعنائه وإتقانه العمل، فصار حقه أصيلًا ملازما له، يجوز له الاعتياض عنه بالمال وبخاصة أن الاعتياض عن حقه بالمال أصبح عرفًا عامًّا مقررًا في الأوساط الإسلامية والعربية المختلفة وممنوحًا، وهذا الحق ممنوح أيضًا من قبل الدولة ممثلة بجميع قوانينها التجارية المعاصرة، المعمول بها في مختلف الدول العربية والإسلامية. ثم أيضًا يعد الاسم التجاري عنصرًا أساسيًّا من عناصر المحل التجاري، كما أن الترخيص أصبح ذا قيمة مالية في عرف الناس، إذ لا يمكن الحصول عليه إلا بجهود متواصلة، وتوضع العقبات الكثيرة في متابعة إما وزارة الصناعة أو وزارة التجارة أو الغرفة التجارية في بعض البلدان، وتأشيرات الأمن وغيرها، يعني دون ذلك خرط القتاد، وقد تشدد الأمور على الوافدين أحيانًا أشد من الموطنين في دول البترول مثلًا. فكل هذا يجعل الحصول على الترخيص وفتح المحل التجاري وإيداع الكفالات صعبًا، فلا بد من كفيل مواطن للوافد، وكل هذا يجعل الحصول على هذه الرخصة عسيرًا ويبذل فيه صاحبه أموالًا، ويعطل وقتًا ويتابع الشهرين والثلاثة، وأحيانًا قد يمتد الأمر إلى ستة أشهر إذا كان المراد بفتح المحل يؤدي إلى نشاط وترويج صناعة معينة، فالدولة لا تتسرع عادة في مثل هذه المشاريع الضخمة، وإنما تعرضها على مؤسساتها القانونية ومجالسها البرلمانية وغير ذلك، فيأخذ الأمر وقتًا طويلًا، لهذا إذا حصل على الترخيص في النهاية أصبح ملكًا له وكل ما يجري الملك فيه تجري المعاوضة فيه، فيما عدا الحقوق المقررة عند الحنفية في النوع الأول مما يعد حقوقًا مجردة كحق الشفعة وحق الحضانة والولاية والوكالة وحق المدعي في تحليف خصمه، وحق المرأة في قسم زوجها لها كما يقسم لضرتها، كل هذه الأمور لا تجوز المعاوضة عنها لأنها شرعت لرفع الضرر، وما شرعه الإسلام لرفع الضرر أيضًا كحق الخيار، لا أن يكون سبيلًا إلى أخذ المعاوضة عنه.