للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبيَّن سبحانه أن الغاية من قبل ومن بعد هي عبادة الله والوقوف على شرائعه وهديه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . [الآية ٥٦ من سورة الذاريات] .

ولقد استطاع الإنسان بالميزات التي خصه الباري بها أن يكون غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفًا لا حد له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها وأعطاه أحكامًا وشرائع حد فيها لأعماله وأخلاقه حدًّا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض.

وظهرت آثار الإنسان في هذه الخلافة على الأرض في المعدن والنبات وفي البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويَجِد ويعمل حتى غير شكل الأرض، فجعل الحزن سهلًا والماحل خصبًا والخراب عمرانًا والبراري بحارًا أو خلجانًا، وولد بالتلقيح أزواجًا من النبات لم تكن، وتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد.

فمن حكمة الله أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ويظهر عجائب صنعه وأسرار خليقته وبدائع حكمه ومنافع أحكامه.

وقد قال بعض العلماء: إن من لم يصلح لخلافة الله تعالى ولا لعبادته ولا لاستعمار أرضه فالبهيمة خير منه.

وإذا كان نفع العباد ودرء الضرر عنهم من أهم المقاصد التي استهدفت الشرائع الإلهية تحقيقه، فإن الشريعة الإسلامية لها الهيمنة الكاملة والقول الفصل في ذلك كله، فإن جلب المصالح ودرء المفاسد هما اللذان تدور عليهما أحكامه كما يقرر ذلك الشاطبي بقوله: (إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا واعتمدنا في ذلك على استقراء الأحكام الشرعية) ، وإن المصالح التي استهدفت الشريعة الغراء المحافظة عليها هي الكليات الخمس التي لا يمكن لأية حضارة إلا أن تأخذ بها، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وكانت وسيلة المحافظة عليها حسب الأهمية والخطورة، فكانت المحافظة على الضروريات التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية في المقام الأول، ثم تأتي المرتبة الثانية وهي الحاجيات التي هي تؤدي إلى رفع الحرج ودفع المشاق أقرب بحيث يقع الناس عند فقدها في ضيق لا تختل معها أمورهم، ثم تأتي مرتبة التحسينات وهي بمنزلة المحاسن للعادات.

<<  <  ج: ص:  >  >>