ووجدنا من علماء الشريعة في كل فن من الفنون من كرس عنايته لتلمس مقاصد الإسلام والوقوف على أسرار التشريع واستنباط الأحكام ومعرفة العلل وحصر الكليات واستقراء الجزئيات لبناء النظريات العلمية القائمة على الفهم الصائب واجتهاد السوي. ووضعوا فيها المؤلفات الخاصة التي ضمنوها ملك الأسرار، وأماطوا بها اللثام عن وجوه المحاسن في التكاليف. ومن لطائف ما نبهنا إليه أبو عبد الله البخاري في كتابه محاسن الإسلام عن البيع والإيجار ما نلخصه في هذه السطور، قال رحمه الله:(البيع معاوضة مال بمال وهو أليق بأحوال الخلق إذ المعطي والآخذ محتاج واللائق بمال المحتاج أن يتصرف على حسب حاجته، فلا يليق به الإعطاء بلا عوض، إنما يليق هذا بمن يكون الغنى له وهو الله، فالمعاوضة أحسن وجوه المعاملة، فإنه فيه صيانة أخيه عن أعباء منته، والإعطاء بلا عوض إدخال حر مثله تحت رق إحسانه، فالبيع اشتمل على مصلحة، وهي أن من احتاج إلى شيء ربما احتاج إلى الأسفار والقوافل وتحمَّل الأخطار ومتى وجده بالبيع قريبًا منه سقط عنه مؤونة الأسفار، وحصل على ما يريد بأهون طريق) .
ولكن ليس كل إنسان بقادر على تملك ما يحتاجه أو ليس دائمًا يرغب في تملك ما يحتاجه، وإن كان قادرًا على تملكه فكانت الحكمة في شرعة الإيجار.
فمصلحة الآجر الحصول على المال مع بقاء العين على ملكه، والمستأجر مصلحته بالوصول إلى المقصود من غير أن يتحمل ما هو فوق طاقته، ولعل هذا هو أهم ما يميز عقد البيع عن عقد الإيجار، ففي عقد الإجارات يبقى الملك لصاحبه مع انتفاع الغير به، أما في عقد البيع فإن الملكية تنتقل إلى الآخر، ويتمحض حقه في البدل وهو الثمن. ولهذا عبر الفقهاء عن ذلك بقولهم: إن البياعات شرعت على حظ الأغنياء، والإجارات شرعت على حظ الفقراء.
فإذا تقرر هذا فإننا سنتناول الموضوع من زوايا ثلاث وهي:
الأولى: حكمه من حيث الوجهة الشرعية وآراء الأئمة والفقهاء.
الثانية: من حيث القانون باعتباره المرجع النهائي عند اختلاف المتعاقدين ومقارنته بآراء الفقهاء.
الثالثة: من حيث الآثار العملية والنتائج المادية المترتبة على هذا النوع من التعامل سواءً أكانوا مستهلكين أم تجارًا.