وقد خصص الإمام ابن القيم مساحة كبيرة في الجزء الثالث من كتابه أعلام الموقعين لبحث مسألة العلاقة بين اللفظ والمعنى ومتى يحمل كلام المتعاقدين على واحد منهما، وبعد أن استرسل في بيان ذلك بين محل النزاع بين العلماء، فقال في (ص١٢١) : (وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلم والفاعل بخلاف ما أظهره، فهذا هو الذي وقع فيه النزاع وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصد والنيات بخلافها أم للمقصود والنيات تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها؟ وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن المقصود في العقود معتبرة وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وفي حرمته، بل أبلغ من ذلك وهي أنها تؤثر في العقد الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا فيما هو حلال تارة وحرام تارة باختلاف النية والقصد كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها. وهذا كالذبح، فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير الله، وكذلك الحلال يصيد الصيد للمحرم فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، فكذلك الرجل يشتري الجارية فينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشتري وينوي أنها له فتحل له وصورة العقد واحدة، وإنما اختلفت النية والقصد) .
وهكذا يسترسل في سوق الأمثلة والتطبيق إلى أن قال:(فالنية روح العمل ولبه وقوامه، وهو تابع لها، يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنبي (صلى الله عليه وسلم) قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) ، فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية وبهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وإن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص) .
ويقرر ابن رجب في القاعدة الثامنة والثلاثين:(فيما إذا وصل بألفاظ العقود ما يخرجها عن موضوعها فهل يفسد العقد، بذلك أو يجعل كناية عما يمكن صحته على ذلك الوجه فيه خلاف: يلتفت إلى أن المغلب هل هو اللفظ أو المعنى) .