للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثانية:

أما المسألة الثانية، وهي عقد إيجار ساتر للبيع، وهذه الصورة كما تبدو إنما هي بيع سمي إيجارًا لئلا تترتب عليه آثار البيع، فمن جهة البائع هو يحتفظ بملكيته، ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفّى بها نشأت عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع وليس من آثار الإجارة نقل ملكية الذات فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة، لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط، وقد دفع أقساط لا تناسب الإجارة لأنها تتجاوز قيمة المنافع وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والمثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافًا للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال القاضي أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد لأنه بمعنى العبث وأكل أموال الناس بالباطل) ، قال في المنهج في سرد نظائر من القواعد التي تعتبر أصول:

والإذن للعداء وألا يجمع

الشخص بين عوضين فاسمعا

وليس كل عقد يتردد صاحبه في نتيجته ممنوع، بل هناك من العقود ما تحصل مصلحته عاجلًا كالبيع والإجارة والهبة، كما يقول المقري، وهناك مالا تحصل مصلحته عاجل كالقراض لأن المقصود الربح، وقد لا يحصل فيضيع تعب العامل، بل قد يضيع رأس المال، وهذا جائز نفي للضرر عن المتعاقدين. (انظر المنثور: ص١٣٥ و ١٣٦) .

ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر مع التردد في مآل الأمر مسألة بيع كتابة المكاتب، والمشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على دراهم أو لا يحصل عليها فيحصل على عبد، ولكن لما كان البائع قد أحل المشتري محله، فهو أي البائع مهما كانت النتيجة لا يحصل على أكثر من الثمن الذي دفعه له المشتري سلفًا، أجازوا هذه المعاملة استحسانًا مخالفة للقياس. قال ابن رشد في البيان والتحصيل: ١٨/٨٣، قال: (حدثني ابن القاسم، عن مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه كره أن تباع كتابة المكاتب، ويقول هو خطار أن عجز كان عبدًا له وإن أدى أربعة آلاف درهم) ، قال محمد بن رشد: (الغرر في هذا بين كما قال وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكًا وأصحابه أجازوا ذلك استحسانًا واتباعا على غير قياس، وله وجه، وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده والذي كاتبه في الغرر، لأنه إذا كاتبه لا يدرى هل يؤدي ما كاتبه عليه أو يعجز فيرجع رقيقًا له، وذلك جائز بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [الآية ٣٣ من سورة النور] ، وقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته)) . هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وهو في سنن أبي داود والترمذي ولكن قضيتنا هذه لا يدري المشتري فيها هل يعجز، فيكون قد دفع أكثر الثمن وخسر المثمن، أما البائع فهو دائمًا بأفضل الخيارين، فهذا خطار وغرر شديد يجعل هذه المسألة أيضًا تدخل في العقود الممنوعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>