للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين:

أحدهما: يكون في بلد يشق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور فالبلاد الواسعة الكبيرة المرافق والجلب كبغداد والبصرة ومصر لا يحرم فيها الاحتكار؛ لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبًا.

ثانيهما: أن يكون في حال الضيق كأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، فأما إذا اشتروه في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم. (١)

أن تتبع المذاهب في الاحتكار يدل على اتفاق المذاهب في الحقيقة وإن ظهر اختلاف بينها في بادئ الرأي، ذلك أن المذاهب الأربعة تتفق على أن الاحتكار المحرم هو ما كان طريق التحصيل عليه الشراء من السوق ـ وإن المنتج والجالب للسلعة من مكان بعيد حر التصرف في سلعته له بيعها وادخارها، ثانيًا: إن الادخار في الوقت الذي يكثر فيه العرض كثرة تفوق الطلب لا حرمة فيه، بل هو مستحب حتى لا تهبط الأسعار هبوطًا يعزف معه المنتج عن الإنتاج، ثالثًا: إن العلة التي تظهر بين الحين والآخر مؤثرة في التحريم (تعلق حق العامة) (إذا لم يضر ذلك بالناس) ، والضرر كما صرح به ابن العربي: (هو غلاء الأسعار) ، ومن هذه النقطة يظهر وجه ربط الاحتكار بالتسعير، فالمذاهب الأربعة تحرم الاحتكار وتعطي المحتسب الحق في التدخل حفاظًا على استقرار الأسعار ـ فهم جميعًا يعتبرون أن استقرار الأسعار مصلحة عامة. وأن الحرية مصلحة خاصة تهدر في مقابل المصلحة العامة ـ وأما التفرقة بين الطعام وغيره واختلافهم في تحديد الأطعمة وإدخال اللباس وعدم إدخاله، إنما هو اختلاف في التدقيق في النظر. فمن تعمَّق في تقدير الحاجات الإنسانية التي لا بد منها لم يقصر تحريم الاحتكار على القمح والشعير، ومن رأيي أن ذلك هو الضروري لبقاء الحياة قصر التحريم. والذي يظهر أن الاحتكار على مستويين، المستوى الأول: ما تستطيع المجموعة مقاومته بالامتناع عن الشراء حتى يضطر المحتكرون إلى النزول بسلعهم للسوق وهو مستوى من التوكل عند المؤمن والرضا بالمقدور، وعند غير المؤمن مستوى مدني ـ وعلى كلٍّ فإن تهافت البشر على ما ليس ضروريًّا لحياتهم يتحملون بتهافتهم قسطًا من اندفاع المحتكرين للاحتكار فالمسؤولية موزعة ولذا رأى أكثر الفقهاء أنه لا حرمة فيه. والمستوى الثاني: أن لا تستطيع المجموعة التأثير على المحتكرين لكون الاحتكار في عيش البشر وما لا يبصرون على اقتنائه. وهنا فالاحتكار طلبًا للغلاء حرام. إذ ترضخ الجماعة للأسعار التي يفرضها المحتكرون. فمن راعى هذه الدقة قصر التحريم على الضروري ومن راعى أن المستوى العام للمجموعات البشرية أنها لا تصبر على المفقود في تحريم الاحتكار.


(١) المغني: ٤/٢٤٤، ٢٤٥

<<  <  ج: ص:  >  >>