فابن العربي نظر إلى القواعد الشرعية فرأى أنها جاءت بالعدل، وأن لا يمكن المهرة من الإثراء بوساطة التلاعب في الأسواق وإغلاء الأسعار، وأن الحاكم قد نصب لإقامة العدل ين الناس ـ وأن سياسة البشر الذين يغلب عليهم تقوى الله والإيثار تخالف سياسة البشر الذين همهم ملء خزائنهم والاستئثار، وطغيان حب الذات والأنانية، ولو بالتضييق على الناس، فما حكم به صلى الله عليه وسلم حق في الوقت الذي حكم به.
معنى ذلك أن هذه قضية عين لا عموم لها هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن نص الحديث لا يدل عي أن الغلاء كان نتيجة عبث بالسوق، وإنما ارتفع الثمن في سوق المدينة تبعًا لعوامل موضوعية لا دخل للتجار فيها. ولذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بالكشف عن الفاعل في الغلاء بقوله ((إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق)) ، فارتفاع الأسعار في عهده كانت متسببة عن تصرف إلهي حكيم في الكون تعرف آثاره، ولله الحجة البالغة وهو ما يفهم عنه الرواية الأخرى بل ادعو الله.
إذن هما اتجاهان: الأول لأصحاب المذاهب لا يتدخل السلطان ولا نائبه في التسعير أصلًا. الاتجاه الثاني أن للسلطان أو نائبه حق التدخل في التسعير، إلا أن هذا التدخل في التسعير للمصلحة قد اختلف فيه الفقهاء تبعًا لتحديدهم للمصلحة المسوغة لذلك، كما أن ميادين التدخل قد تكون في السلع المعروضة في السوق عند التجار، وقد تكون في السلع المجلوبة، وقد تكون في الخدمات البشرية، وقد تكون في الانتفاع بالمباني والآلات.
القسم الأول ـ تدخل السلطة في أثمان المبيعات:
الحنفية: يقول الطوري: إن الثمن حق البائع وإليه تقديره، فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا كان أرباب الطعام يحتكرون على المسلمين ويتعدون تعديًّا فاحشًا، وعجز السلطان عن منعه إلا بالتسعير والتعدي الفاحش هو تضعيف القيمة.
يقول في الدر المختار وأفاد أن التسعير في القوتين (أي قوت البشر والأنعام) ثم قال: لكن إذا تعدى أرباب غير القوتين وظلموا العامة فيسعر عليهم الحاكم بناء على قول أبي يوسف فالحصكفي جعل القول بتسعير الحاكم في غير القوتين إذا أضر بالعامة غير منصوص لأئمة المذهب، ولكنه مخرج على قول أبي يوسف أن كل ما أضر حبسه بالناس فهو احتكاره (١)