إن التسعير في عصرنا الحاضر يختلف عن التسعير في العصور السابقة كما أنه يختلف أمره من بلد إلى بلد ومن بضاعة إلى بضاعة أخرى، ويتبين ذلك مما يأتي:
أولًا: جرت بعض البلدان التي لها قوة مالية تغطي احتياجاتها أو تفوقها أنها لا تتدخل في التوريد، ذلك أن عملتها لها من الغطاء ما يضمن رواجها بقيمتها، وهذه الدول تبني اقتصادها على قاعدة العرض والطلب، فترتفع الأثمان أو تنخفض تبعًا لهذه القاعدة ولا يرى الحاكم أنه في حاجة إلى التدخل، وإن عدم تدخله يضمن تدفق السلع للأسواق والمزاحمة، خاصةً وقد غدت وسائل النقل وإيصال السلع تشمل البر والبحر والجو وأصبح التجار في هذه البلدان يعتمدون لتحقيق الأرباح دوران رأس المال. وقلما يلجأون إلى الاحتكار.
ثانيًا: جرت بعض البلدان ذات الاقتصاد الضعيف أن تتدخل في الحركة الاقتصادية من عدة نواح:
(أ) لما كانت عملتها لا قيمة لها خارج حدودها وهي غير ملزمة بمقايضتها، كان التوريد خاضعًا لتمكين المورد من العملة التي يقبلها البائع خارج الحدود الوطنية، وهذه العملة ليست من مجهود المورد ولكنها مجهود الأمة. وبهذا الاعتبار فالمورد يملك رأس مال ناقص تكمله له الدولة من ثروة الأمة، وتنظيم شؤون الدولة حصر قائمة الموردين حسب شروط وتنظيمات، وبهذا فإنه يحق للدولة أن تحدد سعر البيع كما تراقب سعر الشراء وهو ما نص عليه ابن القيم أن يلزم الناس أن لا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون وهؤلاء يجب التسعير عليهم والا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاؤوا أو يشتروا بما شاؤوا كان ذلك ظلمًا للناس.
(ب) إن الدولة تجد نفسها ملزمة لظروفها الاقتصادية والاجتماعية أن توقف غلاء المعيشة وتيسر على ذوي الدخل المحدود اقتناء بعض الضروريات بثمن أخفض من قيمتها الحقيقية وتعوض من صندوق الخزينة الفارق بين القيمتين، وهنا لا بد لها من أن تحدد ثمن البيع، لأنها في حقيقة الأمر أسهمت في رأس المال ـ فهي شريكة ومن يشاركها قد دخل على أنه لا يزيد على الثمن الذي حددته.
فيظهر أن تدخل الدولة في التسعير هو نتيجة ضعف في الاقتصاد الوطني وأنه كلما كان الاقتصاد قويًّا كانت الدولة في غنى عن ذلك.
والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.