للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والدليل على ذلك عموم الحديث ((لا يحتكر إلا خاطئ)) أو ((من احتكر فهو خاطئ)) والوعيد عليه خاصة، لا ينفي ذلك العموم.

وعلة النهي أيضًا تؤكد ذلك، وهي الإضرار بعموم الناس، نتيجة حبس السلعة وحاجة الناس ليست إلى الطعام وحده، وخصوصًا في عصرنا، فهو في حاجة إلى أن يطعم ويشرب، ويلبس ويسكن، ويتعلم، ويتداوى، وينتقل، ويتواصل مع غيره بشتى الوسائل.

ومن هنا أرجح قول الإمام أبي يوسف في (الخراج) : كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار (١) .

وكل ما تشتد حاجة الناس إليه يكون احتكاره أشد إثمًا، وفي مقدمة ذلك الطعام، وفي مقدمة الطعام القوت الضروري.

وكذلك الخلاف في الوقت الذي يحرم فيه الاحتكار، فمن العلماء من طرد النهي في جميع الأوقات، ولم يفرق بين وقت الضيق ووقت السعة أخذًا بعموم النهي، وعليه عمل الورعين من السلف.

قال الغزالي:

(ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الطعام، وحاجة الناس إليه حتى يكون في تأخير بيعه ضر ما، فأما إذا اتسعت الأطعمة، وكثرت واستغنى الناس عنها، ولم يرغبوا فيها إلا بقيمة قليلة، فانتظر صاحب الطعام ذلك، ولم ينتظر قحطًا، فليس في هذا إضرار،وإذا كان الزمان زمان قحط، كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها أضرار، فينبغي أن يقضي بتحريمه ويعول في نفي التحريم وإثباته على الضرار، فإنه مفهوم قطعًا من تخصيص الطعام، وإذا لم يكن ضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية، فإنه ينتظر مبادئ الضرار وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار، محذور كانتظار عين الضرار، ولكنه دونه، وانتظار عين الضرار أيضًا هو دون الإضرار، فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية والتحريم (٢) .

وعن بعض السلف: أنه كان بواسط، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام يوم يدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار: لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا، إن كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين، فقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال كله، فتصدق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من إثم الاحتكار كفافًا لا علي ولا لي (٣) .

خاتمة:

وإذا كان الأصل جواز الربح بغير نسبة محددة للتاجر الملتزم بأحكام الإسلام وتوجيهاته في البيع والشراء، وترك السوق للعوامل الطبيعية، وهو ما يعبر عنه اليوم بقوانين العرض والطلب – دون تلاعب أو تدليس، أو تدخل مفتعل، لإغلاء الأسعار على عموم الناس ... فهذا لا يمنع ولي الأمر المسلم – عندما يوجد شيء من ذلك – أن يتدخل بمقتضى عموم ولايته ومسئوليته، لتحديد أرباح التجار، بنسب معينة، قد تتفاوت بتفاوت السلع وبمشورة أهل الرأي والبصيرة، كما عبر علماؤنا السابقون رحمهم الله تعالى، وهذا هو موضوع (التسعير) ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، وما شروطه، إلخ ... وهو لا يخص التجار وحدهم، بل يشمل المنتجين أيضًا، وهو جدير ببحث مستقل بعنوانه الخاص.


(١) الخراج، لأبي يوسف.
(٢) الإحياء: ٢/٧٣.
(٣) الإحياء: ٢/٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>