ثم بعد أن علق على ذلك وتتبع الروايات، قال: ويبدو أن تغير أحوال الناس وظهور عنصر الجشع وفقدان الأمانة والتقوى في معاملاتهم، وكذلك اتساع الأوضاع التجارية دفع الفقهاء إلى البحث عن حكم البيع بالزيادة المتفاحشة على الثمن المعتاد، ويبدو أن هناك اتفاقًا ظاهرًا في أنه متى علم البائع والمشتري قيمة السلعة التي تباع بها في الأسواق وحصل الغبن بزيادة في الثمن غير معتادة، أو نقص فيه كذلك فالبيع صحيح ولا حرمة فيه، ولو كان البيع فوق فائدة الربا بكثير، وما مثل هذا إلا كزارع وضع قليلا من الحب في أرضه فأنبتت عشرة من الأرادب، فالطريق مشروع والكسب حلال ورزق ساقه الله إلى التاجر والزارع، أما إذا جهلت قيمة السلعة فإن استسلم أحدهما لصاحبه بأن أخبره بجهله وتحدث عن بيع الاستئمان، ثم تحدث عن الغبن وحكمه، لأنه إذا بلغ الثلث يرد. واستخلص إلى أن الذي يتضح من هذا كله: أن الرأي الراجح هو ترك البضائع بغير تحديد سعر، أو تحديد أرباح للتجار على أن تقوم الدولة بواجبها في توفير البضائع وأنواعها، محاربة للغلاء أو الاحتكار أو السوق السوداء كما عليها إقامة الدين بين الناس، وإحياء ضمائرهم بالتقوى، والبعد عن إجحاف الناس وظلمهم أو استغلال حاجتهم للشراء وجهلهم بالأسعار، فعلى الدولة ترك تحديد الأسعار، أو تحديد أرباح التجار مع نشر الوعي الديني وحث الناس على تقوى الله في هذا المجال ومخافته.
ثم ذكر رأيه، فقال: إلا أنني أرى أن الأمر إذا استشرى جدًّا وصارت طبقة من الناس لا تخشى الله ولا ترحم الناس كما يحصل فيما يسمونه اليوم بالسوق السوداء، فعلى الدولة واجب محاربة هذه الطبقة، ومحاربة ما يفعلونه بخلق التنافس الصالح في التجارة وتوفير البضائع وأنواعها، وتوعية الناس بكل الوسائل بالأسعار المعقولة للبضائع جملة، جملة. ولا شك أن هذا من أهم مهام الدولة.
فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي: أولًا ابتدأ بحثه بتحديد الموضوع فقال: قبل البدء في الموضوع ينبغي أن نحرر المراد منه، فبعض الباحثين في الموضوع قد يفهم أن المراد تحديد الربح للتجار من قبل ولي الأمر.
وأعتقد أن هذا ليس مرادًا هنا، إذ لو كان هو المارد لبحث تحت عنوان آخر أخص به، وهو عنوان (التسعير) .
على أن التسعير لا يقتصر على التجار، بل يشمل المنتجين من زراع وصناع ونحوهم ... وكذلك هذا الموضوع لا يشمل (الغبن) ، لأن (الغبن) شيء آخر وتحدث بعض الأمر عن الغبن، ثم انتقل لبيان معنى التجارة ومعنى الربح، وتتبع الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة التجارة، ثم ذكر عنوانًا هو:" ابتغاء الربح لإيتاء الحقوق والمحافظة على أصل المال ".
وذكر حديث الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) وبعد أن تتبع النصوص من هذا النحو استخلص سؤالا، وهو: هل حددت النصوص نسبة للربح؟
فيقول: ولكن إذا كانت السنة قد رغبت في الاتجار بالمال، ليحقق ربحًا ينفق منه، ويبقى رأس المال سالمًا. فهل أشارت السنة إلى تحديد نسبة معينة للربح، يفرضها التاجر على نفسه، أو يفرضها عليه المجتمع، لا يجوز له أن يتعداها؟
الواقع أن المتتبع للسنة النبوية، والسنة الرشيدة، وقبل ذلك القرآن الكريم، لا يجد أي نص يوجب، أو يستحب، نسبة معينة للربح، ثلثًا أو ربعًا أو خمسًا، أو عشرًا، مثلا، يتقيد بها ولا يزاد عليها.
ولعل السر في ذلك أن تحديد نسبة معينة لجميع السلع، في جميع البيئات وفي جميع الأوقات، وفي جميع الأحوال، ولجميع الفئات، أمر لا يحقق العدالة، ثم أخذ يستدل على هذا المعنى ويؤكده، وانتهى إلى أن المقصود أنه لا يوجد في نصوص القرآن الكريم، ولا في السنة ما يجعل للربح حدًّا معينًا، أو نسبة معلومة، والظاهر أن ذلك ترك لضمير الفرد المسلم، وعرف المجتمع من حوله، مع مراعاة قواعد العل والإحسان، ومنع الضرر والضرار، التي تحكم تصرفات المسلم، وعلاقاته كلها.