للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدكتور يوسف القرضاوي:

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما تلقيت التكليف من الأمانة العامة للمجمع حول موضوع " تحديد أرباح التجار"، في الحقيقة كان الذي في ذهني أن الموضوع هو ليس موضوع " التسعير " وإلا طلب الحديث عن موضوع التسعير، ولذلك انصرف همي وذهني من أول الأمر إلى البحث عن هذا الموضوع – موضوع تحديد الربح _ وهو لم يحظَ بالبحث من قبل ذلك، وأحمد الله أنه بالبحث لم أجد من العلماء من حدد نسبة معينة إلا ما نقلته عن الزيلعي الحنفي من تفسيره وتعريفه للتعدي الفاحش في قول صاحب الهداية وغيره: " إذا تعدى أرباب الطعام تعديًّا فاحشا جاز للسلطان أو نائبه أن يتدخل للتسعير مشورة أهل الرأي والبصيرة "، فهو قال: إن التعدي الفاحش أن يبيع بضعف القيمة، ولكن لم أفهم ولم أعرف بالضبط ما الذي يريده من ضعف القيمة، هل قيمة المثل – وهذا يتعلق بموضوع الغبن وغيره – أو قيمة الثمن الذي اشترى به؟ هنا يدخل مسألة الربح، لم يحدد بالضبط، وكنت سمعت من بعض الإخوة أن المالكية يقولون أو قال بعضهم – بعضهم قال: إن هذا في حاشية الدسوقي، ولم أستطع أن أعثر على نص في هذا – إنهم يقولون بالثلث، بتحديد الربح بالثلث، وأنه يستحب أن لا يزيد على ذلك، ولعل الإخوة من علماء المذهب المالكي وهم متوافرون هنا أقدر على تحديد هذا الكلام ومصدره، ولكني – كما ذكر فضيلة الأخ الشيخ السلامي وقد أحسن في تلخيصه للبحوث – حفظه الله- وجدت في السنة المشرفة ما يدل على أن يكون الربح مائة في المائة كما في حديث عروة بن الجعد الباقي وهو في البخاري وعند أبي داوود والترمذي وعند الإمام أحمد، وهو الذي اشترى الشاتين بدينار حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع في الطريق إحداهما بدينار وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتك، قال: ((وصنعت كيف؟)) فحدثه الحديث، فقال: ((اللهم بارك له صفقة يمينه)) قالوا: فكان لو تاجر في التراب لربح فيه، وقال عن نفسه كنت أقف في كناسة الكوفة – سوق هناك – فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشاهد أنه ربح مائة في المائة في دقائق، يعني في مشوار واحد، وذكرت قصة الزبير والغابة، وكيف باعها عبد الله بن الزبير – وقد اشترى بمائة وسبعين ألفًا – بمليون وستمائة ألف، أي بحوالي تسعة أضعاف، فليس إذن هناك ما يدل على تحديد نسبة معينة للربح، لأننا لا نستطيع أن نأخذ من هذا حكمًا عامًا مطردًا، لأن هذه كما يقول الأصوليون: وقائع أعيان، وإنما تعطينا المبدأ، إنه ليس هناك تحريم لربح معين، ولكن كيف نحدد النسبة للربح لو أدرنا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل هذا، كما أشرت إلى أن هناك اعتبارات عددية تتدخل في تحديد نسبة الربح، من يبيع حالًا غير من يبيع آجلاء، ومن يبيع قليلًا غير من يبيع كثيرًا، وصاحب رأس المال القليل التافه غير صاحب رأس المال الكبير، ومن يبيع سلعًا تتداول بسرعة بطبيعتها غير من يبيع السلع المعمرة كما يقولون أو يبيع أرضًا تبقى سنين حتى يبيعها التاجر المدير أو التاجر المتربص كما يعبر المذهب المالكي، هذه كلها تختلف، فلا يمكن تحديد ربح معين، ولكن هنا في الحقيقة الشيء المهم: أنه لو أن التاجر المسلم التزم بأحكام الإسلام وبتوجيهاته في البيع والشراء، فإنه لا يمكن في أغلب الأحوال إلا أن يربح قليلًا، لأن مسألة منع الاحتكار، ومنع الربا، ومنع التدليس، ومنع الحلف، وأن يجعل الله بضاعته أو ينفق سلعته بالحلف الكاذب، أو إذا باع مدح وإذا اشترى يذم، إلى آخره، كل هذه الأشياء حتى تزيين السلعة كما قال الإمام الغزالي بالكلام – وهذا يدخل فيه معظم الدعايات التجارية والإعلانات التجارية– فالتاجر لو التزم بهذه التعليمات كلها قلما يربح إلا القليل وخاصة من يبيع السلع اليومية والضرورية للناس، أما إذا اعتمد التلاعب وتدخل بعوامل مفتعلة وأصبح هناك احتكار، فلا بد من التسعير، لا ينبغي أن نصدر فتوى كما توجه بعض الإخوة أن التسعير حرام، لا، الأصل هو عدم التسعير، إنما إذا وجدت عوامل مختلفة كما توجد في كثير من بلاد المسلمين الآن، لا بد أن يسعر ولي الأمر حفظًا لمصالح عموم الناس، وبعض الإخوة بتباكون على التجار، والواقع أننا يجب أن نتباكى على المستهلكين، التجار يكسبون الملايين، ولكن الآن المستهلكون هم الضحية، ثم إن التسعير ليس على التجار فقط، التسعير على المنتجين أيضا، لأن الزارع والصانع وصاحب السلعة (منتج السلعة) يجب أن يسعر عليه، هنا شيء آخر – يعني الحقيقة أحببت تصحيح بعض الأشياء – كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: " إما أن ترفع السعر أو ترفع من سوقنا "، وبعض الإخوة يرى أن عمر لا يمكن أن يقول هذا وأن الإنسان ممكن أن يتسامح ويبيع بأقل من السعر، ولكن هذا أحيانًا يكون خطرًا على المجموع، وهذه حيلة يفعلها بعض التجار الرأسماليين، وهي من صنع اليهود الآن قد يتدخل في السوق ويغرقه بسلعة معينة في أول الأمر ويبيع بأرخص ليضرب التجار الآخرين ويضرب السلعة، ثم يحتكر بعد ذلك، فأحيانًا إذا وجد هذا، هذا لا يكون لوجه الله ولا لوجه الناس إنما لوجه صاحبه ولمنفعته، وعمر كان خبيرًا وبصيرًا وملهمًا، فأراد أن يكون العدل هو الحاكم، كثير من الإخوة ينقلون عن ابن القيم كل الكلام الذي نقل عن ابن القيم، إن هذا لقلة الشيء أو لكثرة الخلق، وإنه إلزام بالعدل الذي ألزم الله الناس به، وإن التسعير منه ما هو ظلم ومنه ما ... كله كلام ابن تيمية، يعني ابن القيم نقل كلام شيخه – شيخ الإسلام ابن تيمية – في رسالة الحسبة، وأفرغه في الطرق الحكيمة، فمن العدل ومن الأمانة العلمية أن ينسب هذا إلى الإمام ابن تيمية، كذلك ما قاله الشوكاني في "نيل الأوطار " هو كلام الصنعاني في " سبل السلام " وهو سابق عليه فينبغي أن ينسب إليه. أكتفي بهذا القدر وشكرًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>