للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريا في زمنه، وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به ولم يعدوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجا عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضى الرجوع إلى العرف في الأحكام.

وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر ويريدون ما كان جاريا في عهد النبوة أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف وإنما هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا عن دليل. ومثال هذا أن الإمام مالكًا خص قوله تعالى:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: الآية ٢٣٣] ، بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: إنه لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها لأن العادة جارية بذلك، ولا يريد الإمام أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة ولدها عادة عربية واستمر الأمر فيها بعد الإسلام إلى زمن مالك رضي الله عنه، ومن هذا القبيل اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة، وقالوا إن استمرار هذه العادة يشهد بصحة نقلها خلفًا عن سلف ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) وقد نبه إلى ذلك أيضًا ابن السبكي رحمه الله، فقال في جمع الجوامع: (والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم أو الإجماع) .

والذي نريد تقريره أخيرًا هو أن العرف أصل من الأصول التي يستند إليها في الوصول إلى الفتوى بالشروط والمواصفات المذكورة أعلاه وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإسلامية ملائمة لكل زمان ومكان، وليست كما يزعم الجهلاء أنها ضيقة المجال، فلا تفي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان.

الدكتور محمد عطا السيد سيد أحمد.


(١) انظر البحر المحيط، لللزركشي

<<  <  ج: ص:  >  >>