للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والسؤال الآن: هل يراعى العرف الفاسد كما إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة مثلًا؟

ذهب كثير من الفقهاء إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وهو ما أرى الأخذ به لأن في مراعاة العرف الفاسد إقرارًا للناس على ما هم عليه من جهل بالفقه أو من عدم التقيد بالشريعة في معاملاتهم. وفي عدم الأخذ بالعرف الفاسد تطهير للمعاملات من سيء الأفهام وخروج بالناس إلى سعة الشريعة وتهذيبها ورحمتها وتوطينهم عليها. قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن: (وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة ولو أنهم نقضوا عقود الفساد لم يستمر الناس على الفساد) ، وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياض التونسي في إحدى فتاويه: (والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب ويبيح الحرام فلا يقول به أحد من أهل الإسلام) .

ومراعاة العرف تقتضي تغير الأحكام ودورانها مع اعتراف الناس متى ما تكرر العرف وشاع واطرد العمل به وكان عاما، ولم يعطل أو يعارض حكمًا ثابتًا بنص أو أصلا قطعيًّا من أصول الشريعة. ولقد عقد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين فصلا بعنوان: تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وساق أمثلة كثيرة على ذلك، ثم قال في نهاية الفصل بعد تقريره مذهب المالكية بالقول بالعرف: (وهذا محض الفقه من أفتى بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما يكونا على أديان الناس وأبدانهم، والله المستعان) .

ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافا في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكمًا يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكما غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. ولهذا السبب ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئتمهم القائمة على رعاية العرف متى تحققوا أن العرف قد تغير وأن الواقعة أصبحت تستحق حكما آخر غير ما قرره الأئمة من قبل. وقد عدل عدد من فقهاء المالكية في فتاويهم عن المشهور في المذهب وبنوها على العرف. قال شهاب الدين القرافي في قواعده: (إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك فلا تجبره على عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أيًّا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضيين) .

<<  <  ج: ص:  >  >>