للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأمر الثاني: الذي يحسن أن تتجه أنظار فقهاء المجمع إليه هو مكانة العرف من التشريع الإسلامي، ذلك أن المسلمين اليوم ظلموا شريعتهم كثيرًا عندما قدموا عليها في أغلب أقطارهم القوانين الوضعية والأعراف والعوائد التي تسود في مجتمعاتهم، وهذا ظلم كبير لهذه الشريعة المباركة التي يجب أن يكون لها الصدارة والهيمنة على كل الشرائع والمبادئ والنظم والقوانين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقضي الشريعة عن الحكم وتحصر في نطاق ضيق.

لقد جاءت الشريعة الإسلامية لتحكم وتسود، وعندما حققت هذا غيرت أعراف البشر الظاملة وعوائدهم الخاطئة، والتي كانت بمثابة قيود وأغلال تقعد بهم عن تحقيق الغاية التي خلقوا من أجلها وتوقعهم في عنت وبلاء لا يستطيعون التخلص من إساره، لا لشيء إلا لأنه تراث الآباء والأجداد، لقد قومت الشريعة الأعراف البشرية، والعوائد الإنسانية ووضعتها في مكانها الذي ينبغي أن توضع فيه ولم تجعل لهذه الأعراف أي دور إذا هي صادمت نصًّا من نصوص الشريعة، وألزمت البشر بتغيير عرفهم وعاداتهم بما يتفق ويوائم هذه الشريعة.

وقد فقه علماؤنا وعوامنا هذه الحقيقة، ووعوها جيدًا، وصاغوا حياتهم ومجتمعاتهم وفقهًا، ونص الأصلويون والفقهاء والمفسرون والمحدثون على أن العرف لا قيمة له، بل يجب تغييره إذا خالف النص الشرعي، وعندما بحث الأصوليون في مصادر التشريع الإسلامي جعلوا العرف في ذيل البحث، بل إن الأصوليين يرون أن العرف ليس مصدرًا مستقلًا من مصادر الفقه اٍلاسلامي.

ولذا فإن جناية المتنفذين في عالمنا الإسلامي كانت كبيرة وعظيمة حينما صاغوا قوانين وضعية ألغوا بها دور الشريعة الإسلامية، وحكموا هذه القوانين في رقاب السملمين، وزادوا الأمر سوءًا عندما جعلوا العرف المصدر الاحتياطي الأول الذي يرجع إليه القاضي في حكمه إذا لم يجد في القانون نصًّا يحكمه في الدعوى التي ترفع إليه، ثم تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية في المرتبة الثالثة، وبعضهم يجعلها في المرتبة الرابعة، وآخرون لا يذكرونها، ولا يجعلون لها دورًا في قوانينهم ولا في تشريعاتهم.

لقد أثار بعض رجال القانون عواصف شديدة على بعض أهل الغيرة الإسلامية الذين طالبوا بأن تقدم الشريعة على العرف في قوانين المسلمين في ديار المسلمين، وكتب هؤلاء في الصحف والمجلات وتكلموا في المجامع والندوات وأرعدوا وأزبدوا، كل ذلك لأن بعض الذين يهمهم أمر هذا الدين نادى وطالب بتقديم الشريعة على العرف، وحاول أن يستصدر قانونًا يحقق هذا المطلب.

وعلى الرغم من ذلك فإني لا أرى فائدة من البحث في هذا الموضوع، لأن إيماني بشريعتي وديني يأبى علي كل الإباء أن أرتضي جعل الشريعة الإسلامية في المرتبة التالية للقوانين الوضعية، ولا يشرَّف ديني وشريعتي أن تقدَّم هذه الشريعة على العرف إذا كانت مسبوقة بالقانون الوضعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>