للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الثالث

أمثلة للعرف والعوائد الصحيحة

جاءت كثير من النصوص الشرعية في كثير من الأحكام مطلقة، وتركت الشريعة التفصيل فيها للعرف واجتهاد الفقهاء تبعًا لتغيَّر الظروف والأحوال والأماكن والأزمان.

١- فمن ذلك تقدير النفقة الواجبة على الزوج نحو مطلقته المنصوص عليها في قوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (١) .

فهذا التقدير متروك إلى أعراف الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم تحدّ الشريعة فيه حدًّا يُنْتَهى إِليه.

٢- ومِثْل ذلك يقال في تقدير النفقة المنصوص عليها في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (٢) .

قال العزُّ بن عبد السلام: "السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب أن ما رُدَّ في الشرع إلى المعروف أنَّه غير مقدَّر، وأنَّه يرجع فيه إلى ما عرف الشرع أو إلى ما يتعارفه الناس (٣)

٣- ومثل ذلك يقال في تقدير المسافة في السفر الذي يجوز فيه قصر الصلاة وجمعها، فإنَّ مناط الحكم فيهما "السفر" أما تحديد السَّفر فيختلف من زمان إلى زمان.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "عَلَّق الله ورسوله القصر والفطر بمسمَّى السفر، ولم يَحُدَّه، ولا فرَّق بين طويل وقصير، ولو كان للسفر مسافة محدَّدة لبينه الله ورسوله، ولا له في اللغة مسافة محدودة، فكلُّ ما يسميه أهل اللغة سفرًا فإنه يجوز فيه القصر والفطر، كما دلَّ عليه الكتاب والسنَّة.

وقد أطال شيخ الإسلام في بيان اختلاف العلماء في هذه المسألة، وذِكْرِ أدلتهم ومناقشتها، وإيراد الأدلة التي ترجَّح أن المرجع في تحديد السفر هو العرف (٤) .

٤- وأرجع شيخ الإسلام تفسير الخُفَّ الذي جاءت الأحاديث بإِجازة المسح عليه إلى العرف، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالمسح على الخفين، ولم يقيد ذلك بكون الخفّ يثبت بنفسه أولا يثبت بنفسه، وسليمًا من الخرق والفتق أو غير سليم، فما كان يسمى خفًّا ولبسه الناس ومشوا فيه مسحوا عليه المسح الذي أذن الله فيه ورسوله، وكلُّ ما كان بمعناه مسح عليه، فليس لكونه يسمَّى خفًا معنى مؤثر، بل الحكم يتعلق بما يُلْبَس ويُمْشى فيه (٥) .


(١) سورة الطلاق: الآية ٧.
(٢) سورة البقرة: الآية ٢٣٣.
(٣) قواعد الأحكام: ١ /٧١.
(٤) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ١٩ /٢٤٣، ٢٤ /٤٠.
(٥) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام: ١٩ /٢٤٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>