أما أن كان العرف المقارن عرفًا عمليًّا أي عرف الناس في أعمالهم ومعاملاتهم فإن الحكم يختلف باختلاف المذاهب الفقهية، فقد ذهب الحنفية إلى ضرورة التفرقة بين العرف العام والعرف الخاص، وقرروا بأن العرف العام أي المنتشر في سائر البلاد يعتبر مخصصًا للنص؛ أي يطبق على ما سوى الأمر الذي جرى به العرف العام المقارن للنص، وهذا التخريج ليس فيه تعطيل للنص أو إهماله بل هو إعمال للنص والعرف معًا وذلك تأسيسًا على أن وجود هذا العرف وقت صدور النص يعتبر قرينة على أن الشارع لم يرد شمول ذلك الأمر المتعارف عليه بعموم نصه والمعارض له في الظاهر ومن أمثلة ذلك عقد الاستصناع؛ فالحديث النبوي الشريف نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم، فالمنع يشمل الاستصناع ضمن ما يشمل غير أن العرف جرى بين الناس على الاستصناع لحاجتهم إليه، وقد انعقد إجماع الفقهاء على صحة عقد الاستصناع فارتقى الاجتهاد في هذه المسألة إلى مرد الإجماع. أما العرف الخاص: أي العرف السائد في بلد دون آخر أو طائفة من الناس كالتجار والصناع إلخ ... فلا عبرة به إذا ما عارض نصًّا تشريعيًّا عامًّا ولو كان مقارنًا تأسيسًا على انعدام هذا العرف في بقية البلدان إلا أن البعض من الفقهاء لا يقتضي عندهم تخصيص النص لأن التخصيص لا يثبت بالشك.
أما المالكية فقد ذهب المحققون منهم إلى أن العرف العملي يخصص النص العام دون تمييز بين عرف عام وعرف خاص. والنتيجة التي نخلص إليها: هو اتفاق الفقهاء على أن لفظ النص العام سواء كان عرفًا أو خاصًّا يحمل على المعنى المقارن للعرف. أما بالنسبة للعرف العملي المقارن فإن المالكية يعتبرونه مخصصًا للنص العام سواء كان عرفًا عامًا أو خاصًّا. أما الحنفية فإنهم يسلمون للعرف العام بهذا الدور ولكنهم ينكرونه على العرف الخاص، أما العرف الطارئ: أي العرف الحادث بعد صدور النص فقد سبقت الإشارة إليه بهذا الفصل بأن الفقهاء متفقون على أن هذا العرف الطارئ للنص التشريعي يعتبر نسخًا بالعرف وهذا غير جائز لأن العرف في مرتبة أدنى من التشريع، والنسخ لا يكون إلا بدليل أقوى أو من نفس المرتبة ولا فرق في ذلك بين العرف اللفظي والعرف العملي، وقد أشرنا في هذا البحث إلى الاستثناء الذي نص عليه الفقهاء، فلا حاجة لإعادته هنا.
إلا أننا نجد أن من المفيد هنا أن نذكر بعضًا من نماذج أو من تطبيقات هذا الاستثناء للإيضاح: من المعلوم بأن الحديث النبوي الشريف نهى عن بيع وشرط إلا أن الأحناف فسروا هذا الحديث بأنه مخصوص في عقود المعاوضات وأن الشرط المفسد للعقد هو كل شرط فيه منفعة خارجة عن الحكم الأصلي للعقد وعن ما يلائمه غير أنهم استثنوا من ذلك الشرط الذي ورد بجوازه نص شرعي مثل خيار الشرط، والشرط الذي جرى به العرف ولو كان حادثًا. ونخلص من هذا إلى أن الشرط الذي يقتضيه العقد أو يلائمه ويؤكد موجبه معتبر، ويصح اقتران العقد به كما أجازوا الشرط المتعارف عليه والذي جرت به عادة البلد وتقرر في المعاملات بين التجار وأرباب الصنائع وتفريعًا على ذلك أجازوا بيع الوفاء رغم أنهم كانوا قد أفتوا بفساده بعد أن انتشر بين الناس وتفريعًا على ذلك بين العرف العام والعرف الخاص. وقد أسسوا هذا الحكم على أن علة منع الشرط في البيع هي أن الشروط الزائدة على أصل البيع تفضي إلى منازعة، فإذا جرى العرف على بعض هذه الشروط انتفى النزاع إلا أن العرف يجعل موضوع الشرط معلومًا ومألوفًا واعتبار العرف في هذه الحالات لا يعطل النص بل يتفق مع غرضه وروحه.