ذلك أن المتتبع لكتب الفروع الفقهية يجد أن الفقهاء قد وضعوا قيدًا هامًّا هو أن لا يصدر عن المتعاقدين تصريح بخلاف العرف، فإن صدر هذا التصريح وجب العمل به وترك العرف. وعللوا ذلك. بأن تطبيق ما يجري عليه العرف يرجع إلى أن سكوت المتعاقدين عن ذكره صراحة إنما حدث اعتمادًا على مقصودهما وبطلت القرائن الأخرى المخالفات للعرف. ويكون العرف هنا من قبيل الدلالة فإذا أصدر تعبير صحيح عن المتعاقدين أو أحدهما دل ذل على مقصودهما أيضًا وبطلت دلالة العرف لأن القواعد المقررة عند الفقهاء أنه لا عبرة للدلالة في مقابل التصريح، ولذلك قالوا بأن كل ما يثبت بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح.
فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك.
وقد نص الشرط الثالث من الشروط المتقدم ذكرها: بأن لا يخالف العرف دليلًا أو أصلًا شرعيًّا. ومخالفة العرف للدليل أو أصل شرعي تظهر في حالات ثلاث: ١- مخالفة نص خاص في الكتاب أو السنة. ٢- مخالفة نص عام. ٣-مخالفة حكم بني على الاجتهاد: القياس: الاستحسان. المصالح المرسلة ... إلخ.
١- مخالفة العرف لنص تشريعي خاص:
حرم الشارع بعض صور المعاملات التي جرى عليها العرف في العصر الجاهلي وخص هذه التصرفات بنصوص وردت بخصوصها. ومن أمثلة ذلك تحريم التبني: بيع المنابذة والملامسة وإلقاء الحجر. وتحريم استرقاق المدين ومنع زواج الشغار ... إلخ. والقاعدة الفقهية أنه لا عبرة بمثل هذا العرف ولو كان عرفًا عامًّا لأنه يخالف مقاصد الشريعة.
وبالتالى فإن نهي الشارع عن هذه الأعراف يعتبر دليلًا على أنها ضارة للمجتمع ولا تحقق له نفعًا، ولو تمخضت في التطبيق العملي عن فائدة محققة لبعض أفراد المجتمع لأن إرادة الشارع وحده هي المعيار الذي يحدد ما يجلب النفع وما يدفع عنهم الضرر، وقد أفصح الشارع الحكيم عن إرادته بالنهي عن هذه التصرفات ومنعها، وقد استثنى الفقهاء من هذه القاعدة حالة ما إذا كان النص نفسه حين صدوره عن الشارع قد بني على عرف قائم ومعللًا به فإن النص عندئذٍ يكون عرفيًّا أو غير عرفي فيدور حكمه مع العرف ويتبدل بتبدله، وهنا تختلف وجهات النظر في كون النص الخاص عرفيًّا أو غير عرفي ومن ثم يختلف الرأى في أثر العرف الطارئ.
٢- مخالفة العرف لنص تشريعي عام:
وهي الحالة التي يكون فيها موضوع العرف المخالف عبارة عن بعض عموم النص ولم يرد النص خصيصًّا بشأن هذا البعض، وهنا تجب التفرقة بين العرف المقارن والعرف الطارئ، كما أن العرف المقارن عند الإطلاق يتناول العرف القائم عند ورود النص، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن النص التشريعي الذي يطلق عليه علماء الأصول: النص التشريعي العام: هو الذي يفسر في ضوء العرف اللفظي المقارن له ما لم تقم قرينة عكسية فإذا كان اللفظ الذي استعمله الشارع أوسع دلالة في اللغة من المعنى العرفي له حمل اللفظ على المعنى العرفي لأن العرف اللفظي العام هو لغة التخاطب فيعتبر المعنى العرفي هو المعنى الحقيقي للفظ، وذلك ما لم تقم قرينته على أن الشارع أراد بلفظه حدودًا أوسع من المعنى العرفي. ومن أمثلة ذلك ألفاظ البيع والإيجار ... إلخ فهي في الحقيقة تحمل على معناها العرفي.