للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد كتب لي حضور هذه الاجتماعات التي احتد فيها النقاش وقوبلت العروض فيها بالإنكار والنقض. ونحن لم نذكرها هنا إلا كصورة مخططة وبإصرار لتحدي المسلمين ومهاجمتهم في قرآنهم وسنتهم وعقيدتهم وتشريعهم ونظام الحكم عندهم، ولا أعود إلى ما سبق عرضه ومناقشته في محله من تهم وتهجمات تتصل بالقرآن أو السنة أو العقيدة أو اللغة ولكني أقف ثانية عند قضية السلطة السياسية العامة " الدولة "، وعند قضية الشريعة وتطبيق أحكامها لنرى مواقف أخرى للعلمانية منها:

أما القضية الأولى فالمسيحية فصل فيها بين الدين والدولة ولا كذلك الإسلام، واعتبر ماكسيم رودنسون أن الإسلام ارتبط بالسلطة الزمنية من الأول وظهور ذلك واضح في عمل النبي الذي كان رسولًا وإمامًا. ويجنح أركون بحكم دعوته إلى علمنة الإسلام إلى أنه من الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي الأكيد الفصل بين الدين والدنيا، بين الديني والزمني. ويتساءل هل هذا الفرق الأصلي والأولي حاسم أم هو دون ذلك في تشكيل نوعي السلوك بين المسيحيين والمسلمين؟ ويقرر بعد ذلك معلنًا أن النبي لم يكن قائدًا عسكريًّا أو سياسيًّا فقط، وأن للخطاب الديني الذي جاء به أهمية بالغة كما أنه يتميز بتجربة دينية غنية جدًّا وبقصاء رمزي جديد. وبناء على ذلك – وهنا تكمن حقيقة العلمنة التي يدعو إليها – يمكن التعلق بهذا الدين دون أن نستنتج بالضرورة قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، وأنه لا يلزم بالضرورة أن تكون علاقة الأديان بأصولها مبنية بناء النتائج على أسبابها في كل الظروف وفي كل المنعطفات التاريخية. فهناك إذن دين وأهم ما يتمثل فيه الرسالة وهناك بإزائه مجتمع وتاريخ (١) . وبعد تقرير وجهة النظر هذه القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة أو السلطة يذكر أن الخلافة والدولة في الأساس كانت علمانية وأنها كانت تبحث في الطور الأول عن تبرير أو تسويغ ديني. ونسي أو هو لم يقف على كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ولا على كتاب التراتيب الإداية للكتاني ولكنه اعتمد فقط للاستدلال على رأيه على كتاب ابن المقفع الكاتب والأديب الباطني "رسالة الصحابة" الذي صنعه للدولة العباسية سنة ٧٥٠ ليجعلها حسب زعمه نسخة طبق الأصل من الدولة الساسانية الإيرانية. وإن بنى الدولة العباسية ومؤسساتها وأسلوب الحكم في سوريا العراق وطريق إعادة الأمن لها والقرارات التي كانت تصدر عن الجيش والشرطة والقضاة. كانت كلها مستوحاة من النظم الفارسية دون أي استعانة بالفكرة الوهمية " القانون الديني والإسلامي". وهكذا يصبح جليًّا أنه لا خشية في الفصل بين الدين والدنيا، بين الروحي والزمني. وأنها تجربة واقعة من صدر الإسلام فلا يضير الدين الحنيف أبدًا أن يكون متهجًا لإشباع الجانب الأساسي الروحاني في الناس من غير أن يدخل في متاهات الحكم وصراعاته والسلطة وأشكالها وممارستها.


(١) حوار مع الأكون أجراه هاشم صالح. من أجل مقاربة نقدية للواقع. المستقبل العربي: ١٠١٠، ٧ /١٩٨٧: ٧-٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>